وهنا يثور اشتباه آخر هو المنافاة لإرادة الله وإيجاد الموانع من نفاذ المشيئة كما قيل، وهو ادعاء عجيب؛ لأن مراد الله لا يعرف للإنسان إلا بعد وقوعه، وإرادته تمضي طبقاً لما يشاء سبحانه، ولا راد لأمره، وهذا مقتضى العقيدة الإيمانية الصحيحة في مسألة القضاء والقدر، فالعلم بالمقدور علماً سابقاً لوقوعه هو مما اختص الله به ولا يتخلف عنه القضاء الواقع، وإن الذي يقع فعلاً مهما تخللت من أسباب شتى أو قامت من موانع وصوارف هو المقدور المغيب، سواء كان ظهوره إلى عالم الشهادة مباشرةً للأسباب الظاهرة أو عقب تدخل أسباب غريبة عن مجرى الأمور المعتادة، مما يستدفع به المكروه أو يستجلب به المرغوب، وما قواعد الوراثة إلا نظم وأسباب كونية أودعها الله في مخلوقاته يرفعها متى تعلقت بذلك إرادته، سواء كان ارتفاعها حلالاً أو حراماً؛ ذلك أن الحرام وازعه هو ما في نفوس المؤمنين من منزلة الخطاب والقوى الرادعة عن عصيانه وليس هو الموانع القهرية في صورة المعجزة أو العقوبة المعجلة.
والإرادة الإلهية نوعان: إرادة كونية نافذة دون الحاجة إلى فعل يقدم عليه المخلوق، أو كف يصدر منه، بل يسخر الله من الأسباب ما يكفل نفاذ تلك الإرادة، وإرادة أخرى شرعية تقتضيها النصوص الآمرة أو الناهية، وهي نافذة بالالتزام والمراعاة، أو معطلة بالتمرد والعصيان أو الإهمال؛ لأنها مناط التكليف وموضوع الخطاب.
وابن تيمية ممن أشار إلى الفرق بين نوعي الإرادة، وأوضح اللبس الناشئ عن عدم التمييز بينهما، وكمثال شرعي متشابه؛ قضية التحكم في أصل الإنجاب نفسه بالعزل فقد جاء فيه الحديث عن جابر:((أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها)) أخرجه مسلم في صحيحه.
والملحوظ أن أكثر هذه القضايا المطروحة في ظروف المسلمين الحاضرة ليس في الوسع سد ذرائعها بمعالجتها عن طريق الحكم التكليفي القاضي بالطلب أو الكف؛ بل إنها تمثل أمامهم من خلال الواقع بخيرة وشره، ولابد حينئذ من بحث ما يترتب على ذلك من آثار (وهو ما يسمى بالحكم الوضعي) بقطع النظر عن كون الفعل حلالاً أو حراماً، ولا يخفى أنه لا تزال أحكام الشريعة هي المطبقة في هذه القضايا في العالم الإسلامي كله لأنها من قطاع الأحوال الشخصية.