للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢- وأيضاً فإن انعدام المسؤولية الجنائية يرجع إلى انعدام القصد الجنائي الذي ترتكز عليه كل الجرائم العمدية.. ومتى انعدم القصد الجنائي انعدمت المسؤولية الجنائية خاصة في مثل هذه الحالات التي يقصد فيها الشخص المعالج وهو الطبيب شفاء المريض ونصحه ... فالنية طيبة وليست آثمة، ولكن أخطأ في الإقدام دون إذن المريض. ومع ذلك نقول: إنه يجب التفريق بين القصد الجنائي الذي تكلمنا عنه وبين الباعث الذي يجب أن يكون موافقاً للشرع. فالطبيب الذي يقدم على تطبيب أو عملية جراحية بباعث يخالف مبادئ الشرع يعتبر مسؤولاً جنائياً ومدنياً، فالطبيب الذي يستأصل مبيض امرأة بناء على طلبها ولم تكن حالتها الصحية تستدعي ذلك، أو قتل مريضاً لا علاج له ليريحه من معاناة الآلام يقع تحت هذه الطائلة.

٣- وإذا تجاوز الطبيب حدوده متعمداً فمسؤوليته عمدية. أما إذا تجاوز حدوده مخطئاً فمسؤوليته غير عمدية. جاء في كتاب متن الأمير وحاشية حجازي العدوي عليه: أنه إذا جهل الطبيب ضمن، وظاهره أن الضمان عليه في ماله وهذا ظاهر سماع أشهب. ويضمن أيضاً إذا قصر كأن أراد قلع سن فقلع غيرها خطأ أو تجاوز بغير اختياره الحد المعلوم في الطب عند أهل المعرفة، كأن زلت أو ترامت يد فاتن، أو سقى عليلاً دواء غير مناسب للداء معتقداً أنه يناسبه وقد أخطأ في اعتقاده. (١) وإذا خلع الطبيب سناً غير المتفق عليها، فإن كان ذلك عمداً فعليه القصاص وإن كان خطأ فالعقل. (٢)

وجاء في مذهب الحنابلة أنه لا ضمان على ختان ولا حجام ولا متطبب إذا عرفوا بطبهم ولم تجن أيديهم. وإذا لم يعرف عنه طب فالضمان عليه، وكذلك إذا عرف منه الطب ولكن أخطأ خطأ فاحشاً، كأن يزيل جميع الحشفة في الختان، (٣) وذهب الحنفية إلى أن القاعدة هي أن الطبيب لا يسأل متى لم يتجاوز الموضع المعتاد ويعللون ذلك بأن الهلاك ليس بمقارن للعمل، وإنما هو بالسراية بعد تسلم العمد، والتحرز عنها غير ممكن، لأن السراية تبنى على قوة الطباع وضعفها في تحمل الألم، وما هو كذلك مجهول والاحتراز من المجهول غير متصور، فلم يمكن التقييد بالمصلح من العمد؛ لئلا يتقاعد الناس عنه مع مساس الحاجة. (٤)

وما أجمل هذا القول من الحنفية إذ إنه يدعو إلى تقدم الطب وازدهاره، وذلك بارتياد مجالات يلهمها الأطباء فيقدمون عليها من غير خوف أو مسؤولية معطلة. وجاء في الدر المختار من كتب الحنفية: ولا ضمان على حجام وبزاغ أو فصاد لم يجاوز الموضع المعتاد، فإن جاوز ضمن الزيادة كلها إذا لم يهلك وإن هلك ضمن نصف دية النفس، فلو قطع الختان الحشفة وبرئ المقطوع تجب عليه دية كاملة، وإن مات فالواجب عليه نصفها. وقد علق صاحب رد المحتار على هذه العبارة بقوله: لم يجاوز الحد المعتاد أي وكان بالإذن. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (وإذا أمر الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبطر دابته، فتلفوا من فعله، فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمعقول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه،، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح وكان عالما به فهو ضامن) . وقال الشافعي رضي الله عنه أيضاً في هذا المضمار: (والوجه الثاني الذي يسقط فيه العقد – يريد الدية - أن يأمر الرجل به الداء الطبيب أن يبط جرحه، أو الأكلة أن يقطع عضواً يخاف مشيها إليه، أو يفجر له عرقاً، أو الحجام أن يحجمه، أو الكاوي أن يكويه، أو يأمر أبو الصبي وسيد المملوك الحجام أن يختنه فيموت شيء من هذا فلا عقد ولا مأخوذية إن حسنت نيته إن شاء الله تعالى. وذلك أن الطبيب والحجام إنما فعلاه للصلاح بأمر المفعول به. (٥)


(١) انظر متن الأمير وحاشية حجازي العدوي ٢/٤٠٦
(٢) متن الأمير وحاشية حجازي العدوي (ص ٢٥٩)
(٣) المغني لابن قدامة ٦/١٢٠، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، بيروت - لبنان
(٤) الهداية والعناية ٧/٢٠٦
(٥) كتاب الأم للشافعي رضي الله عنه ٦/١٦٨

<<  <  ج: ص:  >  >>