للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تلك سبيل المؤمنين. وأما الذين {يَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: ٤٧] فهم منافقون، لتوليهم وإعراضهم عما التزموا به علناً من الإيمان والطاعة، ولصدور ما يقابل ذلك منهم ويؤكده من أعمالهم وتصرفاتهم المخالفة للدين. وقد ذيل تعالى هذه الآية بالتعرية لحقيقتهم، والتنبيه على مروقهم من الإيمان والإسلام بقوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: ٤٧ – ٤٨] .

وقد تقع ألوان من المخالفات لما أنزل الله في كتابه أو حكم به رسوله، كأن يتساءل المرء، غير قاصد الصدوف أو الإعراض، عن وجه آخر للحكم مثلاً، مريداً إما الاستفسار، وإما محاولاً إبداء الرأي، فيتعرض من الأئمة لأعنف الرد وشديد الإنكار. فعن عثمان بن عمر قال: جاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة، فقال له: قال رسول الله كذا وكذا. فقال الرجل: أرأيت؟ فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: ٦٣] (١) ووقع مثل هذا مع الإمام الشافعي. روى البخاري قال: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي فأتاه رجل فسأله عن مسألة. فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا. فقال الرجل للشافعي: ما تقول أنت؟ فقال: سبحان الله، تراني في كنيسة؟ تراني في بيعة؟ ترى على وسطي زناراً؟ أقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وأنت تقول لي: وما تقول أنت! (٢)

وإنما كانت هذه المواقف شديدة وعنيفة؛ قصد حمل الناس على التقوى، وتجنيبهم الاحتكام إلى الطاغوت أو إلى الهوى، فيهلكون ويهلكون، ولكونهم بما هموا به أو فكروا فيه يشاقون الله ورسوله، ويخالفون ما في الكتاب والسنة من أحكام: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ١١٥] .


(١) السيوطي: مفتاح الجنة: ٤٩
(٢) ابن القيم. الصواعق: ٢/٥٦٣

<<  <  ج: ص:  >  >>