الأمر الثالث- منهجية التخريج والاستنباط لأحكام الحوادث الجديدة:
يقول الله جل ذكره في محكم كتابه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}[النحل: ٨٩] .
ويقول:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام: ٣٨] ، وهذه وغيرها أدلة واضحة على أن صدر هذه الشريعة لا يضيق عن بيان حكم الله فيما ينزل بالناس، وأن هناك أموراً نصت الشريعة على أحكامها وأخرى يمكن معرفة حكمها بالرد إليها مصداقاً لقوله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: ٨٣] .
ويوضح الإمام الشافعي رحمه الله هذا المعنى بقوله:(كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه حكم بعينه اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد ... )(١)
وهذا يعني أن سبيل تعرف أحكام النوازل إنما هو الاجتهاد، وهو يتنوع أنواعاً فقد يكون اجتهاداً في إدخال الأمر الحادث في دلالة لفظ من ألفاظ النصوص فيأخذ حكمه، أو بقياسه على حكم منصوص لوجود معنى جامع بينهما، أو لكونه خادماً لمقصد من مقاصد الشريعة أو غير ذلك مما وضعت له كتب أصول الفقه، وكل ذلك له شروط وقوانين لابد من الالتزام بها، وهي معروفة في مواطنها من كتب الأصول، وعندما يحصل التعارض بين الأدلة، أو بين الأقوال المستندة إلى الأدلة فإن هناك أيضاً من القواعد ما يمكن به تعرف الراجح الذي يتعين المصير إليه والأخذ به، ولكن كثيراً من الباحثين المعاصرين إذا أراد تعرف حكم نازلة، أو أراد أن يجد مسوغاً لقبولها في الفقه الإسلامي لا يلتزم بالقوانين المحكمة التي يتعين الالتزام بها في مثل هذه الأحوال، وهجيراه أن يجد قولاً لبعض العلماء، أو وجهاً أو رواية في مذهب، فيأخذ به ويجعله دليلاً لصحة ما يقوله، ومن نافلة القول بيان خطأ هذا المنهج؛ لأن الأقوال لا عبرة بها في أنفسها وإنما المعول عليه الدليل الذي استندت إليه هذه الأقوال، وكلما ترجح دليل على غيره وجب الأخذ به شرعاً، والقول الذي لا يسنده دليل قوي لا يصلح للاعتماد عليه، فضلاً عن أن يرجح على غيره، ولذا فنحن بحاجة إلى التدقيق في الأقوال التي نجدها موافقة لما نريد من حيث صحة دليلها ورجحانه؛ حتى يمكن لنا البناء عليها، ومن كان معه الدليل فقوله مقدم على قول غيره، حتى وإن خالفنا فيما نريد، كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:( ... فمن كان أسعد بالدليل كان أسعد بالقبول ... ) .
(١) الإمام الشافعي: الرسالة، ص ٤٧٧ بتحقيق الشيخ أحمد شاكر