للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ففي المراحل الأولى من الثورة الصناعية وإلى منتصف القرن التاسع عشر كانت العدالة في نظر رجال المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية (التقليدية) تعني المحافظة على الأجور الحديدية أو أجور الكفاف للعمال، ولم تكن العدالة حينذاك مستندة إلى مفهوم أخلاقي بقدر ما كانت مستندة إلى مفهوم اقتصادي واقعي في إطار الفلسفة الرأسمالية.

وبعد ذلك تطورت الأمور تطوراً هائلاً مع ظهور الفلسفات الاشتراكية ذات النزعات المختلفة، والتي تبنت جميعها القضية العمالية وعدالة التوزيع بأساليب مختلفة، وخلال أزمة الكساد العظيم في ثلاثينات هذا القرن تمكنت الأحزاب العمالية من تولي سلطة الحكم في معظم البلدان الأوروبية، وأصبح مفهوم العدالة مستقراً لصالح العمال، حتى إن بعض رجال الاقتصاد صاروا يتكلمون عن الإحباط الذي لحق برجال الأعمال الذين يضطرون لدفع ضرائب تصاعدية يذهب جانب منها له اعتباره (بطريق غير مباشر) في الإنفاق على خدمات عامة تستفيد منها الطبقة العاملة وأبناء الطبقة العاملة أكبر الفائدة، كذلك اشتدت الحركة النقابية العمالية حتى إن أصحاب الأعمال يضطرون في معظم الأحوال للخضوع للمطالب العمالية الخاصة بزيادة الأجور أو يخاطرون بتوقف أعمالهم.

وفي مثل هذا المناخ لا يستطيع المرء أن يقول: إن ثمة مشكلة قائمة بالنسبة لأجور العمال بسبب التضخم أو غيره، حيث يستطيع هؤلاء الحصول على حقوقهم كاملة غير منقوصة، بل وربما أكثر منها في حالات؛ ذلك لأن هناك آلية نابعة من التشريعات الوضعية والمؤسسات القائمة والسياسات الاقتصادية تضمن التعبير عن المطالب العمالية في مجالات شروط العمل وتحديد معدلات الأجور وتغييرها، وتضمن تحقيق معظم هذه المطالب بأسلوب مناسب للعمال، ومع ذلك يجب أن نذكر أن هناك استثناءات من هذا الاتجاه العام السائد في البلدان الصناعية المتقدمة، تتمثل في ضعف المقدرة الفعلية لبعض فئات العمال على إثارة مطالبها الأجرية أو تحقيقها، مثال ذلك العاملين في جهاز الدولة من الموظفين العموميين أو رجال الشرطة ورجال القضاء ورجال الجيش، وكذلك أيضاً العاملين في وظائف لها وضعها الأدبي وحساسيتها الشديدة مثل أطباء المستشفيات العامة ورجال الإطفاء والمدرسين بالمدارس العامة، لذلك نجد أن مشكلة الأجور الحقيقية وتدهورها في ظروف التضخم، ومن ثم ضرورة تعديلها، كثيراً ما تثار في العالم المتقدم بالنسبة لهذه الفئات العاملة على وجه الخصوص، فهذه الفئات بحكم وظائفها العامة أو أوضاعها الاجتماعية والأدبية الحساسة لا تتمكن غالباً من المحافظة على دخولها الحقيقية (أو زيادتها) في ظروف التضخم إلا إذا انتبه المجتمع وانتبهت الجهات المسؤولة إلى قضاياهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>