وحيث إن الأجور هي أثمان خدمات العمال وحيث تنخفض مقدرتهم في الغالب على تعديلها خلال التضخم فإنه يتم توزيع الدخل الحقيقي في المجتمع لغير صالح العمال، وكلما اشتدت حدة التضخم وطالت فترته كلما اشتدت حدة المشكلة المطروحة، هنا تكمن خطورة الأمر: شعور الفئة الكبيرة من أبناء المجتمع أنها تتعرض للغبن بسبب ظروف لا تستطيع أن تتحكم فيها ولا علاقة لها بالكفاءة الإنتاجية أو كمية العمل، ونتائج اختلال العدالة خطيرة غاية الخطورة، فهي من جهة تسبب تصدعاً في العلاقات الاجتماعية يبن الفئة التي تخسر والفئة التي تستفيد من نفس الظروف، وهذا أمر في غير صالح الأمن والاستقرار الاجتماعي وفي غير صالح التنمية الاقتصادية أيضاً، فالفرد يشعر بمرارة في نفسه حينما يعمل ويجتهد لكي ترتفع كفاءته ويرتفع دخله الحقيقي، ثم يكتشف بعد مرور السنين أن دخله الحقيقي أصبح أقل مما كان عليه حينما بدأ طريقه بسبب (خداع النقود) ، لقد كان دخله النقدي يزيد ولكن بمعدل أقل من معدل الارتفاع في الأسعار على مدى سنوات طوال، وللمقريزي كلام دقيق وتحليل عميق سبق به زمنه كثيراً في اختلاف أحوال الناس خلال الغلاء الشديد بسبب اختلاف مقدرتهم على مواجهة هذا الغلاء (١) كذلك يصف أحد كتاب أوربا في العصور الوسطى خداع النقود الذي يرجعه إلى غبن القيمة الذاتية للعملة، بما يؤدي إلى تدهور قوتها الشرائية وارتفاع الأسعار، بأنه أسوأ من الربا، فالربا كما يقول نيكول اورزم: يسلبه الدائن من المدين بعلمه وربما برضاه، أما خداع النقود فيتضمن سلباً لحقوق عامة الناس دون علمهم.
وفي البلدان المتقدمة المعاصرة يقال: إن العمال لا يضارون غالباً بالتضخم لأنهم منظمون ومتحدون، وأهم من ذلك على درجة عالية من الوعي بمسألة خداع النقود بحيث إنهم لا يخدعون بمستويات الأجور النقدية وإنما بمعدلات التغير فيها مقارنة بمعدلات التغير في الأسعار أو نفقات المعيشة، أما في البلدان النامية حيث تفتقر معظم الفئة العاملة إلى التنظيمات التي تحفظ لها حقوقها، كما تفتقر إلى الوعي بشأن خداع النقود، فإن آثار التضخم على العدالة والكفاءة الإنتاجية والتنمية وكذلك التماسك الاجتماعي تتفاقم مع الزمن.
(١) راجع المقريزي (تقي الدين أحمد بن علي المقريزي) : (إغاثة الأمة بكشف الغمة) ، وقد خصص فصلاً في هذا الكتاب في ذكر (أقسام الناس وأصنافهم وبيان جمل من أحوالهم وأوصافهم) وذلك تحت وطأة الغلاء الشديد الذي شهدته مصر في (٧٩٦-٨٠٨هـ) ، وقد قسم الناس سبعة أقسام: ١- أهل الدولة، ٢- أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهية، ٣- الباعة وهم متوسطو الحال من التجار ويلحق بهم أصحاب المعايش، ٤- أهل الفلح سكان القرى والريف، ٥- الفقراء وهم معظم الفقهاء وطلاب العلم وما شابههم، ٦- أرباب الصنائع والأجراء، ٧- السآل الذين يتكففون الناس ويعيشون عليهم، وأخذ المقريزي بعد ذلك يذكر ما حدث للدخل النقدي لكل فئة بالمقارنة بما حدث للأسعار الذي تسبب في اختلاف قيمة النقود –رخصها- وأثبت في تحليله أن الدخل الحقيقي لبعض الفئات لم يزدد كما يظن؛ لأن ارتفاع النفقات واختلاف قيمة النقد أتلف الزيادة في الدخل النقدي، ومن الممكن الاطلاع على مختصر (ولكن مفصل) لعمل المقريزي في: عبد الرحمن يسري أحمد (تطور الفكر الاقتصادي) الطبعة الثالثة (منقحة) ، الناشر: قسم الاقتصاد بكلية التجارة – جامعة الإسكندرية ١٩٩٣، ص ١٦٠- ١٧٢