لم تكن مشكلة الفجوة التي تنشأ بين الأجور النقدية والأجور الحقيقية بسبب التضخم معروفة فيما مضى بالكيفية وبالأبعاد التي نعرفها بها في عصرنا الحاضر، فالمشكلة الحالية نتيجة أساسية لعدد من الظروف التي استجدت في عالمنا المعاصر ولم تكن معروفة قديماً، فلم يعرف العالم الإسلامي القديم في عصر الازدهار الاقتصادي تضخماً مستمراً لفترات طويلة مثلما يحدث الآن، كذلك لم تكن عقود العمل طويلة الأجل في مؤسسات قائمة معروفة فيما مضى.
ومع ذلك فإن الإسلام العظيم لم يترك أمراً من الأمور إلا وله فيه حكم بين أو سبيل يعين على فهمه وإرساء قاعدة يحتكم إليها فيه، ومن هنا تتبين ضرورة فهم النصوص المتعلقة بالعمل المستأجر في القرآن الكريم والسنة المطهرة لرؤية ما فيها من معان يستفاد منها ويحتكم إليها، ثم استطلاع ما خرج به علماء المسلمين من الآراء والاجتهادات (دون دخول في تفاصيلها إلا فيما يلزم لهذا البحث) لنرى كيف يمكن أن نستفيد منها أولاً، وما نحتاج لإضافته إليها بعد ذلك.
النصوص والاجتهادات الرائدة:
ورد لفظ (الأجر) في الكتاب الكريم في آيات كثيرة بالمفهوم اللغوي العام للكلمة: أي الثواب أو المكافأة مثال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة: ١٢٠] ، وفي قلة قليلة من الآيات نجد المفهوم الخاص بالأجر وهو ما يدفع للشخص عوضاً عن مجهود أو عمل يبذله، وهذا ما نهتم به في هذا البحث، ومثال هذا المفهوم الخاص للأجر قوله تعالى:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[الطلاق: ٦] ، وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) } [القصص: ٢٦- ٢٧] . والآية الأولى الخاصة بالمراضع واضحة، والآيتان الأخيرتان من سورة القصص فيهما معان كثيرة؛ منها أن خير الأجراء الأقوياء بدناً الأمناء خلقاً، وأن عقد العمل قد يمتد إلى عدد من السنين باتفاق واضح وصريح بين الطرفين، وأن من علامات الصلاح بالنسبة للمستأجر أن لا يشق على الأجير وأن يحدد له أجره ويوفيه له في وقته.
أما النصوص التي تتعلق بالمفهوم الخاص بالأجر في السنة المطهرة فمنها قول أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال:((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) رواه البخاري وابن ماجه وغيرهما (وأخرجه المنذري في باب الترهيب من منع الأجير أجره- الترغيب والترهيب) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه)) ، رواه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد روي نفس هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه (رواه أبو يعلى) وروى الطبراني نفس الحديث في الأوسط من حديث جابر، وقال المنذري: وبالجملة فهذا المتن مع غرابته بكثرة طرقه قوة والله أعلم.