٣- الملاحظ أن مبدأ العدل قد برز هنا بشكل واضح حتى عند الأقوال المتقابلة، فمن لا يعتد بالتغيير يتمسك بأن هذا هو العدل، ومن يذهب إلى القيمة يستند إلى أن ذلك هو العدل. الأول يرى أن المثل هو ما التزم به المدين عدداً وقدراً، والثاني يرى أن العدد والقدر خاصة في النقود إذا ما تدهورت قيمتها لا يعتبر مثلاً لما التزم به.
٤- الملاحظ أن أصحاب الرأي الأول أخرجوا التغير السعري من باب العيوب وأحكامها، حيث لم يطرأ على ذات النقد شيء وإنما هو مجرد فتور في رغبات الناس وقاسوا ذلك على المثمنات مثل الحِنطة، والحقيقة أن هذا القول محل نظر، فالعيب في كل شيء بحسبه، وهناك عيب الذات وهناك عيب النوع، والمفارقة هنا أنهم وضعوا للعيب معياراً دقيقاً وعاماً وهو كل ما يرتب نقصاً في المالية، وبتطبيق ذلك على النقود نجد ماليتها ليست في ذاتها وعينها وشكلها ورسمها وإنما هي في ماليتها وقوتها الشرائية، وقد صرح بذلك الإمام السرخسي. وإذا صح هذا بالنسبة للنقود الذهبية والفضية ذات القيمة الذاتية أو السلعية فإنه ليصح من باب أولى على نقودنا الورقية التي ليس لها إلا قيمة نقدية فقط. ومعنى ذلك أن أي شيء ينقص من هذه القيمة فإنما هو عيب حسب التعريف الفقهي للعيوب، ولم أجد من فصل القول في ذلك تفصيلاً شافياً من الفقهاء إلا ابن تيمية رحمه الله، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
٥- وما دمنا سلمنا بأن ذلك عيب في النقود قد طرأ بعد ثباتها في الذمة، فإما أن يضمن من هي في ذمته نقصان العيب أو يرجع القيمة، وضمان نقصان العيب في الأموال الربوية محل خلاف بين الفقهاء؛ البعض يمنعه لأنه ربا والبعض يجيزه، والرجوع إلى القيمة قد يكون مخرجاً من ذلك.
٦- ومما يزيد المسألة اشتباهاً الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:((كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس بذلك إذا كان بسعر يومه)) وهذا الحديث روي بعبارات مغايرة بعض الشيء، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) دون عبارة ((إذا كان بسعر يومه)) ، والإشكال هنا إن صحت الرواية الأولى حيث يعد ذلك نصاً في عدم الاعتداد بالتغير السعري، والمثال يوضح ذلك.
هب أنه عند ثبوت البيع كان سعر الصرف بين الدرهم والدينار هو ١: ٣، وأصبح سعره عند السداد ١: ٤، وكان الثمن مقداره ١٨٠ درهماً، فلو راعينا قيمة هذه الدراهم عند ثبوتها في الذمة فإنها ١٨٠ ÷ ٣ = ٦٠ ديناراً، ولو راعينا قيمتها عند السداد لكانت ١٨٠ ÷ ٤ = ٤٥ ديناراً، النص يقول بالسعر عند السداد أي أنه يأخذ ٤٥ ديناراً، رغم أنها أقل مما كانت عليه عند الالتزام، ومعنى ذلك عدم التعويل على القيمة يوم البيع، وبعبارة أخرى التمسك بالمثل وعدم الالتفات لأي تغير سعري، فإن صحت هذه الرواية فكيف يتأتى لهؤلاء الفقهاء الذين عولوا على القيمة واعتدوا بتغير الأسعار أن يوفقوا بين كلامهم وبين هذا النص النبوي؟ الأمر مطروح ليحرره لنا الفقهاء.
٧- هل من الممكن قياس هذه المسألة على مسألة الجائحة؟ وقد قال المالكية بوضعها على الطرف الثاني منعاً للظلم والإضرار (١) ، ربما كانت هناك فوارق بين المسألتين، لكنهما معاً يعدان مصيبة نزلت بأحد طرفي التعامل، ولا يمكن دفعها ولا الرجوع على المتسبب فيها، على أية حال الأمر في ذلك في يد الفقهاء، ومما يزيد الموقف اشتباهاً أن أصحاب الرأي الأول يقيسون هذه المسألة على مسألة الجائحة، لكن على أساس عدم وضعها.
(١) ابن رشد: بداية المجتهد، بيروت، دار المعرفة: ٢/١٨٨؛ الخرشي، شرح الخرشي، ٥/١٩٠؛ ابن تيمية، الفتاوى الكبرى: ٣٠/٢٧٨