للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويمكن أن يجاب أيضا بما ذكره ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه جريان الربا في الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة وغيره، فقال (١) :

(وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينهما، ولهذا قال: تبرها وعينها سواء) اهـ.

ولابن القيم رحمه الله توجيه رائع للتعليل بالثمنية يحسن بنا ونحن نرى أن التعليل بالثمنية أصوب الأقوال وأصحها أن نذكره كختام لمبحثنا هذا.

قال رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) ما نصه (٢) :

(وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة. وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. وهذا هو الصحيح بل الصواب.

فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النسأ. والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية.

فإن الدراهم والدنانير أثمان مبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا، لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع، لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة, وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره. إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس- إلى أن قال – فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة، أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها، لصارت متجرا وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد. فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلعة. فإذا صارت في نفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود ولا يتعدى إلى سائر الموزونات) اهـ.

ونظرا لوجود النص الثابت الصريح في جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة وذلك فيما روى الإمام أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) وحيث إنه لا اجتهاد مع نص فإن الربا بنوعيه يجري فيهما في مسكوكهما وسبائكهما وتبرهما إلا ما أخرجته الصنعة منهما؛ فقد اتجه بعض المحققين من أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما إلى جواز التفاضل في بيع الذهب بجنسه والفضة بجنسها إذا كان أحد العوضين مما أخرجته الصنعة كالحلي مع بقاء الحكم بوجوب التقابض في مجلس العقد رعاية للنص الخالي عما يصرفه عن الحكم العام في جريان ربا النسيئة فيهما. وقد تقدم النقل عن ابن القيم رحمه الله في تعليل ذلك وأن للصنعة فيهما قيمة تقابل زيادة الثمن وزنا على وزن الحلية المبيعة من ذهب أو فضة.


(١) الإعلام: (٢/١٤٠)
(٢) إعلام الموقعين: (٢/١٤٠) .

<<  <  ج: ص:  >  >>