للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جاء في حاشية الرهوني والمدني: (وحكمه الأصلي الجواز وهو ظاهر الأقوال، والروايات، وكره مالك العمل به إلا لمتق، وقيل: يكره أن يستظل بظل صيرفي) (١) .

وقال ابن رشد: (وباب الصرف من أضيق أبواب الربا، فالتخلص من الربا على من كان عمله الصرف عسير، إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة بما يحل فيه ويحرم منه وقليل ما هم؛ ولذلك كان الحسن يقول: إذا استسقيت ماء فسقيت من بيت صراف فلا تشربه، وكان أصبغ يكره أن يستظل بظل صيرفي، قال ابن حبيب: (لأن الغالب عليهم الربا؛ وقيل لمالك رحمه الله أتكره أن يعمل الرجل بالصرف، قال: نعم إلا أن يكون يتق الله في ذلك) (٢) .

فكلام الإمام مالك، وأصبغ وابن رشد لا يدل على عدم جواز عقد الصرف، أو المنع منه، وإنما يدل على أن كثيرا ممن يعملون في هذا المجال ينقصهم العلم بأحكامه أو لا يتورعون فيه، مما يؤدي إلى انزلاقهم في الحرام، لكن مثل هاتين الحالتين لا تعودان على حكم الصرف كنوع من البيوع بالحرمة، أو الكراهة، وإنما تلحق الحرمة والبطلان العقد إذا لم يستوف شروط الصرف، أو اختل شيء من أركانه. إلا أنه يجب ألا يمارس التجارة فيه إلا من عرف أحكامه واستوفى شروطه عند تطبيق عقوده. وحينئذ فإنه لا مانع ولا كراهة.

وقال أبو حامد الغزالي: (خلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما ... إذ لا غرض في أعيانهم، ... فإذن خلقهما الله لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى وهو التوسل بهما إلى سائر الأشياء؛ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة فمن ملكها فكأنه ملك كل شيء ... وهو وسيلة إلى كل غرض وكالحروف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره ... فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما، فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه؛ لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم، ولا يحصل الغرض المقصود به، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة للمقادير مقومة للمراتب) . ثم استشهد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: ٣٤] ، وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة كفر النعمة، وكان أسوأ حالا ممن كنز ... وذلك إن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات ... ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود ... ، وقال من عامل معاملة الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة، فإذا اتجر في أعيانهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة؛ إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ... فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدا عنده وينزل منزلة المكنوز، ... فلا معنى لبيع النقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار وهو ظلم) (٣) .


(١) ٥/٦١، المطبعة الأميرية, مصر ١٣٠٦
(٢) المقدمات ٢/١٤
(٣) إحياء علوم الدين ٤/١٤٢ و١٤٣ و١٤٤

<<  <  ج: ص:  >  >>