للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(فإن قلت لم جاز بيع أحد النقدين بالآخر؛ ولم جاز بيع الدرهم بمثل؟ فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل، إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلا قليلا، ففي المنع منه تشويش المقصود الخاص به؛ وهو تيسير التوصل به إلى غيره، وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث) (١) .

فالجواب أن الغزالي لا يمنع جواز بيع أحد النقدين بالآخر؛ لكنه يرى أن كنزهما كفر لنعمة الله التي جعلها فيهما؛ فإن كان مراده بالكنز عدم إخراج زكاتهما – مع بعده – فهذا حرام بلا ريب؛ قال ابن كثير: (وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هو المال الذي لا تؤدى زكاته، وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز، وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا، وقال عمر بن الخطاب نحوه: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض) (٢) .

وإن كان يقصد ادخارهما ادخارا سلبيا غير منتج، فهذا إذا وقع من بعض الأفراد فإنه لا يؤثر، في الغرض منهما؛ وهو توسطهما بين السلع؛ لأنه لا يمكن أن يدخر كل الناس، أو معظمهم، ما بأيديهم من نقود في وقت واحد. مع ادخارهما – ولو دفع زكاتهما- خلاف الأولى؛ لأن الأموال المعطلة إذا استغلت في التجارة، أو الزراعة، أو الصناعة، كثر الإنتاج، أو تحسن، وكثر تداول البضائع، وساهم في التخفيف من البطالة. أما إذا كان الادخار يؤدي إلى الاحتكار فانه حينئذ يكون محرما. واحتكار النقود مثل احتكار الطعام.

وأما قوله: (فإذا اتجر في أعيانهما قد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم) . فغير مسلم؛ فما دام أن الله سبحانه وتعالى أجاز بيعهما وشراءهما على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره، فإن من لوازمه وجود من يتخذها مقصودا لتتوفر لمن أراداها. وهذه هي الحكمة الربانية، إذ لو لم يوجد الصيارفة الذين يشتغلون بالتجارة في النقود لشق على الناس، أو تعذر في بعض الأحيان حصول مقصودهم من العملات الأخرى. وقد ازدادت هذه الحكمة وضوحا في هذا العصر حيث أصبح الذهب والفضة سلعة، ولم يعد وسيطا للتبادل، وحلت محله الأوراق النقدية التي يتداولها الناس اليوم. وقولي هذا لا يعني تخلف علة الربا في الأثمان، وفي جنسها، بل هي باقية فيهما، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.


(١) إحياء علوم الدين ٤/١٤٢ و١٤٣ و١٤٤
(٢) تفسير القرآن العظيم ٣/٣٥٠

<<  <  ج: ص:  >  >>