للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن المعلوم أن ابن حزم لا يحتج إلا بالصحيح. قال في مقدمة كتابه: (وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات) (١) .

وجه الدلالة من الأدلة السابقة:

فقد جاء حديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة بصيغة النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، وكذلك حديث عبادة جاء عاما في كل ذهب وفضة؛ حيث يدخل فيهما جميع أصنافهما من مضروب ومنقوش وجيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر خالص ومغشوش. وليس في هذا الحديث ولا في غيره من الأحاديث ما يفيد تخصيص بيع الحلي من عموم النهي. فتكون الزيادة التي يقال: إنها في مقابل الصنعة حراما، والعقد فاسدا؛ لأنه منهي عنه، والنهي يفيد البطلان.

وأما حديثا عبادة، وأبي الدرداء فوجه الدلالة فيهما إنكارهما على معاوية بيعه آنية من فضة بأكثر من وزنها كما جاء مصرحا به في حديث أبي الدرداء، والآنية قد تغيرت بالصناعة من التبر أو من الدراهم المضروبة إلى الشكل الذي أصبحت به آنية تصلح للاستعمال فقد بين الصحابيان الجليلان الحكم وهو عدم جواز بيعها بأكثر من وزنها، ولم يجيزا أي زيادة مقابل العمل.

فتضمن الحديثان الشريفان الإنكار في الحالة الأولى، ثم بيان الحكم وهو الحرمة، وكيفية تصحيحه وهو أن يباع مثلا بمثل، ثم دعما قولهما بالدليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا بيان للحكم بدليله، ولم يلتفتا إلى قيمة الصنعة في الآنية المذكورة؛ حيث قال عبادة: ((إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) ، وقال أبو الدرداء: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا. فلما علم المسلمون الحكم امتثلوا وردوا ما أخذوا؛ تجنبا عن الوقوع في المحرم. وهذا دليل على أن هذا البيع باطل. وبعد أن حسا من معاوية رضي الله عنهم جميعا عدم تقبله لما ذكرا أعاد عبادة القصة وقال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم. وقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، ثم جاء كتاب عمر إلى معاوية – رضي الله عنهما – مؤكدا عدم جواز التفاضل عند اتحاد الجنس سواء كان مصوغا أو غير مصوغ، وقد جاء ذلك بصيغة النهي (لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن) . وقول عبادة: لا أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء؛ وقول أبي الدرداء: لا أساكنك بأرض أنت فيها (يحتمل أن يكون القائل قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده، وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا وهو عندهم عظيم: رد السنن بالرأي) (٢) فدل على أن الزيادة في الذهب أو الفضة ربا لا فرق بين تبره ومضروبه ومصوغه وغير مصوغه.


(١) المحلى ٩/٢٥٢
(٢) التمهيد ٤/٨٦

<<  <  ج: ص:  >  >>