المسألة الثانية: في المحاسبة المصرفية وتتعلق بمحاسبة الأرباح، وهي المسألة المهمة جدا من الناحية العملية والشرعية جميعا. المسألة إنما نشأت من حيث إننا نقول: إن البديل الحقيقي للأعمال الربوية المصرفية هي المشاركة والمضاربة، ولكن المضاربة والمشاركة اللتين نقرأهما في كتب الفقه في الواقع كانتا عمليتين بسيطتين ما بين شخص وشخص أو أشخاص معدودين ولم تكن بهذا الحجم الكبير الذي نشاهده اليوم، فلذلك كان الفقهاء قد قيدوا المشاركة والمضاربة بشروط لا تكاد تتحصل في هذه المحفظة الجماعية كما يقع في البنوك والشركات المساهمة، فكان المفروض في الشركات والمضاربة ألا توزع الأرباح إلا بعد تنضيض الأموال، أما إذا لم تكن الأموال ناضة فكيف توزع الأرباح؟ وكذلك اشترط الفقهاء أنه لا يمكن أن تدخل بعض الأموال في المضاربة بعدما أعطى رب المال بعض ماله إلى المضارب. فهذه المشاكل ربما جعلت بعض العلماء المعاصرين يقولون: إن المشاركة والمضاربة لا يمكن أن تنطبق على هذه الأعمال المصرفية، ومنهم من جاء باقتراحات ربما لا تكون عملية. مثلا قال بعض العلماء المعاصرين: إنه يجب ألا توزع الأرباح إلا بعد تنضيض الأموال كلها حقيقة، هذا مما لا يمكن فعلا لا في الشركات المساهمة ولا في البنوك. واقترح بعض العلماء أن تكون لهذه العمليات فترات محددة، ويدخل الناس لفترة معينة وبعد انتهاء تلك الفترة توزع الأرباح على أساس التقويم، وهذا أيضا يشكل من حيث العمل في البنوك الإسلامية؛ لأن عمليات البنوك متتابعة وسريعة وأن سرعة إنجاز العمليات لا يمكن بهذا الطريق.
واقترح بعضهم أن تكون لكل بنك مثلا وحدات استثمارية ويعلن سعرها كل أسبوع –مثلا- وهذا إنما يتمشى في بعض المؤسسات المالية غير المصرفية، أما العمليات المصرفية فإنها أسرع من أن نوجد لها مثل هذه الوحدات. وليس ذلك حلا عمليا حتى الآن إلا المحاسبة المعروفة باسم (حساب النمر) ، وربما يقال له (حساب الإنتاج اليومي) ، وهذه المحاسبة إنما تكون على أساس ما تنتجه كل وحدة نقدية كل يوم، فمن أودع أموالا في مصرف مثلا مائة ريال لأول يناير ثم سحب منها عشرة ثم أدخل فيها عشرين أخرى بعد مدة فإنهم في نهاية السنة يحاسبون كم بقيت من هذه الأموال؟ وماذا حصل من الأرباح على كل وحدة نقدية أي على كل ريال؟ وعلى هذا الأساس يوزعون الأرباح على جميع المودعين وهو الذي يسمى (حساب النمر) . وحساب النمر هذا يحتاج إلى تخريج أو تكييف فقهي، وطالما فتشت في كتب الفقهاء لأجد له تكييفا فلم أفز بتكييف مصرح في كتب الفقهاء الأقدمين.
ولكن الذي يبدو أن هذه المضاربة أو المشاركة التي تكون في الشركات المساهمة أو في البنوك نوع جديد من المشاركة والمضاربة، وهي ظاهرة جديدة لحاجات جديدة. ولذلك لا يمكن وليس من الواجب أن تتوفر فيه جميع الجزئيات الفقهية التي هي موجودة في كتبنا في موضوع المشاركة أو المضاربة، ما دامت هذه المشاركة أو المضاربة تحتفظ بالمبادئ الأساسية التي يقوم عليها مبدأ الشركة والمضاربة. ولو كان المشاركون –مثلا- إنما يشاركون على أساس المشاركة في الربح والخسران جميعا، ولا يحدد لأحدهم مبلغ معين لأن ذلك يفي بالشروط اللازمة والأساسية لصحة المشاركة والمضاربة. فلو أخذنا هذا الحساب –حساب الإنتاج اليومي أو حساب النمر- فلا أرى هناك مانعا في القرآن أو السنة أو في كلام الفقهاء، والمسألة إنما طرحتها في بحثي لتدرس وتناقش ليبت فيها من قبل هذا المجمع الكريم.