واعتقادي أن هذا نظر سطحي منطلقه أساسًا من طغيان التفسير المادي، وتعميمه على كل الظواهر، حسية كانت أو غير حسية.
ذلك أن العلماء الماديين لا يبحثون إلا في المحسوس، ولا يعترفون إلا بنتائج هذا البحث المادي؛ فإذا أرادوا تفسير أي نشاط يقوم به الإنسان، تتبعوا ما يحدث لأجزاء الجسم المحسوسة عند ممارسة هذا النشاط، ولاحظوا مختلف التطورات والأفعال وردود الأفعال المحسوسة، التي تقوم بها أعضاء الجسم المختلفة، فإذا انتهى بهم المطاف إلى آخر نشاط حيوي يقع تحت آلاتهم، نسبوا إلى العضو الذي صدر عنه هذا النشاط الأخير التصرف الذي قام به الإنسان.
وهكذا عندما اكتشفوا أن المخ هو العضو الأخير الذي ينفعل بأنواع من الانفعالات لكل تصرف يصدر عن الإنسان، نسبوا إليه كل تصرف إنساني مادي كان أو غير مادي.
والحقيقة أنهم قد يكونون على حق في تفسير جميع الخطوات المادية التي تتم داخل الجسم عند قيام الإنسان بتصرف ما؛ فهذا مجالهم وهم أدرى به.
ولكن الذي لا يقرون عليه أن ينسبوا النتائج النهائية، وهي صدور التصرفات الإنسانية بأشكالها النهائية، إلى العضو المادي الذي كانت فيه خاتمة الانفعالات المادية قبيل صدور ذلك التصرف؛ وذلك أن جميع التصرفات الإرادية الصادرة عن الإنسان فيها عنصر معنوي غير مادي هو الإرادة. والذي تدل عليه سنن الحياة ومعهودات الكون أن المادة لا يمكن أن تنتج المعاني، وإنما ينتج عن المادة مادة مثلها. ولا بد أن يكون هناك مخلوق غير مادي في جسد الإنسان خلقه الله عاقلًا، يستفيد من الحركات المادية التي تقوم بها أعضاء الجسد بتأثيره هو، وتتجمع محصلتها في المخ، فيصدر عن ذلك المخلوق التصرف الإنساني بصورته النهائية.
إن مما يصعب تصديقه أن مجرد حركات تظهر على الأعضاء وتظهر محصلتها على العضو الرئيس –المخ- تنتج في النهاية إحساسًا بالألم، واللذة والسرور والطمأنينة وغير ذلك من المدركات بمختلف أنواعها.
صحيح أن المخ وبقية أعضاء الجسد تختلف عن الأجهزة المادية الجامدة بأنها تتكون من خلايا حية تنمو وتتطور وتموت، ولكن هذه الحياة غير عاقلة، وهي عينها حياة الجنين قبل نفخ الروح، وهي عينها حياة القلب النابض المقلوع من جسد الإنسان، المحفوظ تحت ظروف معينة.