للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانياً: أن جمهور الفقهاء عرفوا المثلي في أبواب القرض والغصب والإتلاف، بما هو مكيل أو موزون، وجعلوا الكيل، أو الميزان معياراً له، فعلى ضوء ذلك، لا يدخل فيه النقود الورقية، فتكون من القيميات التي يلاحظ فيها عند الحقوق والالتزامات قيمتها.

وأما على ضوء تعريف إمام الحرمين، والغزالي، الذي جعل تساوي الأجزاء من حيث القيمة والمنفعة معياراً للمثلي، فلا تدخل فيه النقود الورقية، فالليرة اللبنانية الآن هل تساوي الليرة اللبنانية قبل خمس عشرة سنة؟ وكذلك الأمر بالنسبة لتعريف الكاساني الذي أضاف إلى المكيل والموزون: المعدود الذي لا اختلاف بين آحاده؛ وذلك لأن النقود الورقية يوجد بينها اختلاف بيِّن بين آحاده؛ وذلك لأن النظر إلى النقد الورقي ليس باعتبار شكله ورسمه، وإنما اعتبار قيمته الشرائية، فالنقود الورقية ليس فيها نفع ذاتي، فلا تؤكل ولا تشرب، ولا تلبس، وإنما باعتبار ما يشترى بها.

وقد رأينا المحققين رجحوا تعريف المثلي بما هو مكيل أو موزون، وشاهدنا دفاع الإمام الجليل الرافعي وغيره عنه، ويقول ابن قدامة: "وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن" (١) .

ويقول صاحب المطالب: "ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض" (٢) ويقول العلامة البابرتي: "إن المكيلات والموزونات كلها من ذوات الأمثال، دون القيم" (٣) .

فعلى ضوء هذا التعريف للمثلي لا تدخل النقود الورقية فيه، فتكون من القيميات التي تلاحظ فيها القيمة كقاعدة عامة.

ومن هذا العرض، يمكن القول بأن للفقهاء في باب القروض والغصب معيارين: معياراً ذاتيًّا، وهو رعاية الكيل، أو الوزن، ومعياراً موضوعيًّا مرناً، وهو تساوي الأجزاء مع رعاية القيمة والمنفعة، وهذا ما اختاره إمام الحرمين والغزالي وغيرهما، وهو الذي يظهر رجحانه، إذ أن الوقوف عند الناحية الشكلية، دون رعاية الجوهر والغاية والمقاصد، لا يتفق مع هذه الشريعة التي نزلت لتحقيق العدالة في كل الأمور، ولذلك جعل الماوردي وغيره تساوي القيم بين شيئين معياراً لتحقيق المثلية فيهما فقال: " فإن التماثل بالقدر، غير أن القيمة يعرف بها تماثل القدر وتفاضله" وقد ذكر ابن الهمام أن المماثلة الحقيقية المطلوبة لا تتحقق إلا باعتبار الصورة والمعنى، والمعيار يسوي الذات، أي الصورة، والجنسية تسوي المعنى (٤) .


(١) المغنى ج ٤ ص ٧
(٢) مطالب أولي النهى (٣/ ٤٣)
(٣) شرح الهداية ٧/ ١٠
(٤) شرح الهداية: (٧/ ٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>