للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفرق العاشر:

أن مشكلة التضخم التي يعاني منها العالم ولدت في أحضان النقود الورقية، بعد ما حلت محل النقود الذاتية بحيلة قانونية –كما ذكرنا- ولا سيما بعد ما أصبحت بلا غطاء حقيقي، ولذلك أصبحت أموال الناس مهددة بهذه التقلبات الكبيرة التي نشاهدها ونعايشها، فكم من غني جمع من النقود الورقية بكده، وعرق جبينه، ثم ظهر التضخم فأكل أمواله النقدية، وأصبحت كل هذه العملات التي يملكها لا تساوي شيئاً يذكر، فكم من تجار مهرة في لبنان جمعوا أموالهم بالليرة اللبنانية وبلغت الملايين، ولكن بعد ما حصل لليرة اللبنانية ما حصل أصبحت مئات الآلاف لا تساوي شيئاً يذكر.

فلو كانت نقودنا ذهبية، أو فضية فهل كان ينجم كل هذه الأضرار؟

إن الحضارة الإسلامية لم تشهد تضخماً إلا حينما شاعت الفلوس والنقود المغشوشة، ولم تشهد النقود الذهبية والفضة الخالصة أي تضخم يذكر.

يقول الأستاذ محمد الحريري: "إن هذا الداء –أي داء التضخم - كان ظاهرة اقتصادية، رافقت الانتقال من النقود السلعية إلى النقود الائتمانية.. فالذهب والفضة تمتعا –كنقود- بثبات نسبي في قيمتها.. وذلك، لأن النقود السلعية –ومنها الذهب والفضة- كانت تتساوى قيمتها الاسمية مع قيمتها التبادلية، بينما نقل كثيراً قيمة النقد الاصطلاحي، عن قيمته الاسمية، وباستعراض تاريخي للأزمات الاقتصادية في العالم، نجدها مصاحبة لتداول النقد الورقي" (١) .

ويذكر المقريزي وغيره أسباب المشاكل النقدية التي وقعت في بعض العصور الإٍسلامية، وأنها تكمن في إصدار الفلوس، يقول المقريزي: "الفلوس لم يجعلها الله تعالى قط نقداً في قديم الدهر وحديثه، إلى أن راجت في أيام أقبح الملوك سيرة وأرذلهم صريرة –الملك الناصر- وقد علم كل من رزق فهماً وعلماً أنه حدث في رواجها خراب الأقاليم، وذهاب نعمة أهل مصر، والفضة هي النقد الشرعي –أي بجانب الذهب- لم تزل في العالم، وأما الفلوس فإنه.. ومنذ كان الملك إلى أن حدثت الحوادث والمحن بمصر سنة ست وثمانمائة في جهات الأرض كلها عند كل أمة من الأمم كالروم والفرس وبني إسرائيل، واليونان والقبط، والنبط والتبابعة، ومن أقيال اليمن والعرب العاربة، والعرب المستعربة، ثم في الدول الإسلامية من حين ظهورها على اختلاف دولها التي قامت بدعوتها كبني أمية بالشام والأندلس، وبني العباس بالعراق، والعلويين بطبرستان وبلاد المغرب، وديار مصر والشام، والحجاز واليمن، ودولة بني بويه، ودولة الترك بني سلجوق، ودولة الأكراد بمصر والشام، ودولة المغول ببلاد المشرق، ودولة الأتراك بمصر والشام.. إن النقود التي كانت أثماناً وقيماً، إنما هي الذهب والفضة فقط، ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم، ولا طائفة من الطوائف أنهم اتخذوا أبداً في قديم الزمان ولا حديثه نقداً غيرهما، إلا أنه لما كانت في المبيعات محقرات تقل أن تباع بدرهم أو بجزء منه، أصبح قديماً وحديثاً إلى شيء سوى النقدين يكون إزاء تلك المحقرات، ولم يسم أبداً ذلك الشيء الذي جعل للمحقرات نقداً البتة.. ولا أقيم قط بمنزلة أحد النقدين، ولم تزل ملوك مصر والشام والعراقيون، وفارس والروم في أول الدهر وآخره، يجعلون بإزائها نحاساً يضربون منه القليل والكثير صغاراً تسمى فلوساً، وكان للناس بعد الإسلام وقبله أشياء أخرى يتعاملون بها كالبيض، والودع (٢) وغير ذلك (٣) ، ويقول الشافعي في الأم بعد أن ذكر أن الفلوس لا يمكن أن تكون أثماناً ونقوداً: "وقد بلغني أن أهل سويقة في بعض البلدان أجازوا بينهم خزفاً مكان الفلوس" (٤) .


(١) مقالته في مجلة النور الاقتصادية العدد ٤٢ والعدد ٤٣
(٢) الودع: خرز أبيض تخرج من البحر، تتفاوت في الصغر والكبر، القاموس. ومختار الصحاح
(٣) النقود للمقريزي، ط. الكرملي ص (٦٥- ٦٦) ؛ والنقود والمكاييل للمناوي ط. العراق ص (١٢٣-١٢٧)
(٤) الأم (٣/ ٩٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>