للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما قاله المقريزي وغيره في حق الفلوس تحقق منه أكثر في عالم النقود الورقية من مشاكل التضخم، وسرقة أموال الناس من خلالها، والتقلبات الخطيرة التي لم يعد الإنسان يطمئن إلى هذه النقود ولم تصبح مخزناً للثروة، ولا قيماً يقاس بها الأموال، بل أصبحت السلع هي المعيار لها، فهي بدعة أحدثها الغرب، للتحكم في ثروات العالم رخصاً وغلاء، وحسب مصالحهم، ولذلك إذا أرادوا أن يضربوا اقتصاد أية دولة خفضوا نقودهم التي ارتبط بها مصير جميع نقود دول العالم، ومن جانب آخر فإن أهمية الذهب والفضة تكمن في كونهما معدنين نفيسين نادرين ليس من السهل الحصول عليهما إلا عند وجودهما وتحصيلهما، أما النقود الورقية فتستطيع الدولة أن تصدر ما تشاء منها بالمليارات، ومع ذلك لا تصبح بها غنية، يقول (بواجلبرت) : "من المحقق أن النقود ليست ثروة في ذاتها، وأن كميتها لا تؤثر في رخاء الأمة" (١) وقبله قال ابن سينا في رده على المشتغلين بالكيمياء: " وذلك أن حكمة الله في الحجرين وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس، ومتمولاتهم، فلو حصل عليهما بالصفة، لبطلت حكمة الله في ذلك، وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء" (٢) كما هو الحاصل الآن حيث لا يحصل أحد منا من اقتناء كثير من نقودنا الورقية على ما يحقق رغبته ويشتري بها ما يريده بسبب كثرتها وتضخمها. وقد هاجم ابن خلدون هؤلاء الكيميائيين الذين يغشون الذهب والفضة ويلبسون الحديد أو غيره ثوب أحدهما، لما يترتب على ذلك من مظالم للناس؛ ولأن الغش، أو الصفة لا يزيد من الثروة للإنسان، بل هو عجز وكسل، والغنى إنما يحصل بالأعمال الإنسانية والصناعات، وزيادة الآلات والمكاسب (٣) .

ويقول د. محمد صالح: "إن قيمة المعادن النفيسة أقل تعرضاً للتغيرات من بقية السلع؛ وذلك لأن كمية المستخرج سنويًّا منها طفيفة بالنسبة للمقادير العظيمة الموجودة منها، ولهذا السبب يصغر شأن التقلبات التي يحدثها هذا المحصول السنوي في قيمة هذه المعادن" (٤) ويقول: " لكن إجماع الناس انعقد منذ القدم على تفضيل الذهب والفضة، ومنذ نصف قرن فضلوا الذهب، وأصبحت الفضة في المقام الثاني، وصار الذهب هو العملة الدولية، ثم ذكر أسباب تفضيلهما على غيرهما بالتفصيل (٥) بالإضافة إلى العلاقة الوثيقة بين سعر الذهب والفضة والنقود المصنوعة منها حيث تنخفض، أو ترتفع حسب قيمة أصلها، في حين لا توجد أية علاقة بين سعر النقد الورقي، والورق المصنوع منه، وقد أشار العلامة جعفر الدمشقي إلى المزايا الخاصة التي جعلت الذهب والفضة مرشحين للنقدية وتفضيل الذهب على الفضة" فقال: " وقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة لسرعة المواتاة في السبك، والطرق والجمع، والتفرقة، والتشكيل بأي شكل أريد مع حسن الرونق وعدم الروائح والطعوم الرديئة، وبقائهما على الدفن وقبولهما العلامات التي تصونهما وثبات السمات التي تحفظهما من الغش والتدليس، فطبعوهما وثمنوا بهما الأشياء كلها، ورأوا أن الذهب أجل قدراً في حسن الرونق وتلزز الأجزاء والبقاء على طول الدفن وتكرار السبك في النار، فجعلوا كل جزء منه بعدة من أجزاء الفضة، وجعلوها ثمناً لسائر الأشياء " (٦) .


(١) نقله عنه د. محمد صالح: أصول علم الاقتصاد. ط. النهضة بمصر سنة ١٣٥٢ هـ ص ٣١٨.
(٢) نقله عنه ابن خلدون في المقدمة ص (٤٨٣)
(٣) انظر: المقدمة ص (٤٧٩ – ٤٨٥)
(٤) د. محمد صالح: المرجع السابق ص (٣١٠)
(٥) د. محمد صالح: أصول الاقتصاد ط. سنة ١٩٣٣ م ص (٣٠١ – ٣١٠)
(٦) انظر الإشارة للإمام جعفر بن علي الدمشقي ط. القاهرة ١٣١٥، ص (٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>