للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الترجيح.. والتكييف الفقهي

رأينا –فيما سبق- كيفية ظهور النقود الورقية، وكيف أن الخلاق قد ثار بين العلماء عند بداية ظهورها، حيث لم يعترف بها بعضهم، بل لم يجعلوها نقداً ولا مالاً فلم يوجبوا فيها زكاة ولا غيرها من الأحكام التي تترتب على النقود الذاتية من الذهب والفضة.

وهذا القول إذا كان في وقته سائغاً ومقبولاً، للاعتبارات السابقة التي صاحبت نشأتها حيث كانت لا تخلو من كونها سندات في بداية ظهورها، كما أن النقد الذهبي، أو الفضي كان سائداً.. فإن هذا الرأي لم يعد مقبولاً في عصرنا الحاضر بعد أن صارت النقود الورقية هي السائدة لا غير، وأصبحت هي أساس المعاملات، وأثمان الأشياء، ورؤوس الأموال، وبها يتم البيع والشراء وسائر المعاملات، ومنها تصرف الأجور والرواتب والمكافآت، إنها تدفع مهراً فتستباح بها الفروج شرعاً دون أي اعتراض، وتدفع ثمناً في النفائس وغيرها، وأجراً للجهد البشري ودية في القتل، وغير ذلك من الأحكام (١) .

وإذا كان القول السابق لم يعد له مبرر لقبوله، لما فيه من تفريط فإن القول بأن النقود الورقية مثل النقود الذهبية أو الفضية في كل الأحكام قول لا يجد لنفسه مستنداً مقبولاً من نصوص الشريعة الغراء، ولا يدعمه الواقع المعاصر الذي نعايشه، ولا يخفى الغلو والإفراط الذي يصاحبه.

ومن هنا فالعدل دائماً كامن في الوسطية، التي هي سمة ديننا وشرعنا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: ١٤٣] وهي القول بنقدية هذه الأوراق المالية، وبالتالي وجوب الزكاة فيها باعتبار قيمتها الموازية لنصاب الذهب، أو الفضة –كما سبق- وكونها صالحة للثمنية والحقوق والالتزامات، ولكنها مع ذلك لا تؤدي جميع الوظائف التي تؤديها الذاتية، وبعبارة أخرى إنها نقود، ولكنها لا تؤدي جميع وظائف النقود الذاتية، وإنما تؤدي بعضها، ولذلك يلاحظ فيها المالية والقيمة، كما يلاحظ فيها عدم جواز الربا فيها، وعدم التأجيل إذا بيع بعضها ببعض.

فكما أننا لا نعتبر الريال القطري جنساً شاملاً للريال السعودي أو بالعكس، بل ننظر عند الصرف إلى قيمة كل واحد منهما، فكذلك الأمر عندما تحدث فجوة كبيرة جدًّا بين ما وقع عليه العقد، وما يجب أداؤه بعد فترة زمنية، وذلك لأن غطاء النقود الورقية الآن ليس ثابتاً –كما سبق- وإنما هو تابع لدولتها التي تصدر منها، فإذا كان هذا الغطاء متجدداً متغيراً فلا بد أن تكون النقود التابعة له متغيرة يلاحظ فيها هذه التغيرات، على عكس النقود الذاتية التي تستمد قوتها الشرائية من ذاتها وكونها تصلح للسلعة، حيث إنها معدن نفيس حتى لو بطل التعامل بها نقداً، لبقيت قيمتها المالية وصلاحيتها لكثير من الاستعمالات –كما سبق-.

ثم الاعتراف بأن نقودنا اليوم لا تؤدي جميع الوظائف التي كان النقدان المعدنيان –الذهب والفضة- يؤديانها لا يتعارض مع القواعد العامة في الاقتصاد الحديث، بل يعترف بذلك بوضوح، ولذلك فمفهوم النقد مرن جدًّا يشمل أنواعاً كثيراً، بعضها لا يؤدي إلا وظيفة واحدة، يقول الدكتور محمد يحيى: "وهذه الوظائف الأربع للنقود تعتبر متكاملة في المجتمع الذي يسوده نظام اقتصادي مستقر.. فإذا ما عجزت النقود المتعارف عليها عن القيام بإحدى هذه الوظائف، فإنها تفقد خاصيتها.. ففي حالة الانهيار المفاجئ لقيمة النقود، فإنها تفقد ميزتها، أو وظيفتها كوسيلة للمعاملات الآجلة، ومن ثم تفقد كذلك وظيفتها كوسيلة الاحتفاظ بالثروة أو لاختزان القيمة" (٢) .


(١) فضيلة الأستاذ القرضاوي. فقه الزكاة (١/ ٢٧٣- ٢٧٦)
(٢) د. محمد يحيى عويس: مبادئ في علم الاقتصاد ص (٢٨٦- ٢٨٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>