للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه نقول: إن كلام الفقهاء القدامى في مسالة غلاء ورخص النقود لا يتعلق أبدًا بالمستوى العام للأسعار بل بعلاقة الفلوس والدراهم المغشوشة بالذهب والفضة.

إذن فإن بين مفهوم الفقهاء القدامى للغلاء والرخص والمفهوم المعاصر للتغيرات في القوة الشرائية للنقود فروقًا كبيرة تؤثر في نظرنا في الحكم، منها:

١- أن التغيرات التي تطرأ على الذهب أو الفضة ليست تحت سيطرة أو إرادة الحكومة أو أي فرد من أفراد المجتمع، فلا يمكن والحال هذه أن توجه المصلحة جهة بعينها، فمن المعلوم أن سعر هذين المعدنين (حتى يوم الناس هذا) معتمد

على تفاعل قوى العرض والطلب في السوق العالمية والتي –وإن تأثرت مؤقتًا بقرارات من حكومات معينة- فهي مستقلة عن أي جهة، ومن ثم فإن الارتفاع أو الانخفاض فيها لا يحدث بطريقة منتظمة (Systimatic) يمكن توقعها أو التنبؤ بها بدقة، وإنما هي تغيرات أشبه ما تكون بالأنواء والأحوال الجوية فهي كضرب عشواء (١) هذا على خلاف مؤشر تكاليف المعيشة الذي يقيس القوة الشرائية للنقود، والنقود في يد الحكومة يصدرها مصرفها المركزي وتؤثر عليها وعلى قوتها الشرائية سياساتها النقدية والمالية.

فربما زادت الحكومة من عرض النقود حتى ترخص، فإذا رخصت وأصبحت السلع والخدمات أغلى مما سبق ارتفع مؤشر تكاليف المعيشة والمذكور فلا تستطيع الحكومة عندئذٍ دفع ما عليها إلا بمزيد من النقود، فتصدر مزيدًا منها، فإذا أصدرت المزيد زادت النقود رخصًا.. وهكذا يدور الاقتصاد في حلقة مفرغة، ويصبح تغير النقود بالرخص جزءًا من نظام نقدي معتمد من الحكومة، ويضحي الانخفاض في القوة الشرائية للنقود معروفًا للجميع (٢) .ويشهد على ذلك أن العالم برمته لم يشهد منذ نحو ٥٠ عامًا إلا الارتفاع في الأسعار، وربما اختلفت نسبة الارتفاع من سنة إلى أخرى ومن بلد إلى ثانية وربما شذ عن ذلك آحاد السلع، ولكن الظاهرة العامة هي الارتفاع المستمر في تكاليف المعيشة، أليست هذه الظاهرة أبين وأثبت وأرسى وأشد تأثيرًا من العرف الذي إذا ساد لم تصح معه الزيادة في القروض؟ فإذا سمح بأن تقتضي الديون بالقيمة لا بالمثل فإن ما في ذمة المدين "سيزيد" (وليس له اتجاه إلا الزيادة) بنسبة كذا في السنة، لا فرق عندي بين هذا الربط وبين المتعارف أو التشارط على زيادة في القرض (أو الدين الذي ثبت في الذمة) كنسبة من الفائدة المتغيرة، ذلك هو عين ربا بالنسيئة؛ لأن الزيادة لا تختلف في حقيقتها وأثرها وحكمها الشرعي عن ذلك العرف والشرط والله أعلم.


(١) فمثلًا عندما اشتعلت أزمة الخليج في سنة ١٩٩٠م كانت جميع النظريات والتوقعات تقول بضرورة ارتفاع سعر الذهب ارتفاعات شاهقة، ولكن الذي حدث أنه لم يتغير، هذا مصداق لما ذكرناه
(٢) معلوم أن كل الدول تتبنى خطة وسياسة محددة لإصدار النقود تتضمن معدلًا للنمو السنوي فيها (أي مزيد من الإصدار) بل أن بعض الدول تلزم مصرفه المركزي بسد جزء محدد كنسبة مئوية من العجز في ميزانيتها –سنويًّا- بمزيد من الإصدار للنقد الورقي

<<  <  ج: ص:  >  >>