للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبمعنى آخر، فإن منع السلطان للتعامل بالنقد، مع وجوده عند الصيارفة، وفي البيوت، يؤدي إلى رخص أو غلاء العملة، وليس إلى انعدام الثمن، ومع ذلك فلنلاحظ أن الأحناف، قد فرقوا في الفتوى بين هذا النوع من الرخص أو الغلاء، باعتباره انقطاعًا تجري فيه أحكام الكساد، وبين نوع آخر من الرخص والغلاء توجد فيه العملة عند الصيارفة، وفي البيوت، وفي الأسواق أيضًا! ولا أجد ما يبرر مثل هذا التمييز، فيما اطلعت عليه من أقوالهم، إلا أن يقال: سببه هو تدخل السلطان بالمنع، وهو مما يناقض قولهم بأن تدخله بالإرخاص لا يوجب إلا المثل، كما سنرى في الصورة السابعة.

ولعل الصورة الرابعة هذه، هي التي كانت في أذهان الشافعية وجمهور المالكية، الذين يصرون على وجوب المثل – لا القيمة - عند انقطاع الفلوس والدراهم المغشوشة (١) .

٥- الصورة الخامسة:

منع السلطان التعامل بالنقد، مع عدم وجوده مطلقًا، لا في البلدان الأخرى، ولا عند الصيارفة، ولا في البيوت.

ويحصل هذا عندما توجد عدة أنواع من النقود، في بلد، ولا توجد في غيره، فيبطل السلطان واحدًا منها.

ومن الواضح أن هذه الصورة ينعدم فيها الثمن، فلا يوجد في مكان، ولا ينشأ للنقد الممنوع سعر في السوق، أي سوق، وبالتالي، فلا مناص من العدول عن القول بسداد المثل إلى أي قول آخر، يتسم بأي نوع من الإمكان والواقعية. ولعل هذه الصورة، هي التي استدعت قول أبي حنيفة ببطلان البيع، وضرورة رد المبيع لعدم الثمن، وفي القرض باستحقاق المثل فقط (٢) ولا شك أن استحقاق المثل في القرض – في هذه الصورة - غير عادل البتة (٣) لأن النقد الذي قبض عند القرض كانت له قيمة، وكان ينتفع به، أما بعد أمر السلطان، فلم تعد له أية قيمة في أي مكان، وصار لا ينتفع به بالكلية، ولابد من معالجة هذا الوضع، بنظر فقهي جديد، لعدم العدل الظاهر فيه، وإذا كان لابن عابدين رأي في الصورة السابعة – وهي تخفيض القيمة، بأمر سلطاني - كما سنشير إليه بعد قليل – وهو رأي يقوم على العدل، وعدم تحميل واحد من طرفي العقد كل الضرر الحاصل نتيجة لظروف خارجة عن إرادتهما، وتوقعاتهما، فإنه من باب أولى أن يقال هنا بقول ينصف المقرض، وهو محسن، {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: ٩١] .


(١) ولنلاحظ هنا التشابه الكبير بين الصورة الرابعة والصورة الثامنة، التي تختلف عن الرابعة فقط بترك الناس للعملة. وزهدهم بها، من أنفسهم، دون أمر من السلطان
(٢) تنبيه الرقود ص٦٠
(٣) وينبغي أن نلاحظ هنا أن القول الفقهي برد المثل في هذه الصورة جاء وقت كانت فيه النقود كلها معدنية بما فيها الفلوس والدراهم المغشوشة، وللمعدن ثمن في أي وقت، والتعامل في الأسواق يقرب دائمًا بين قيمة السلعة في النقد وقيمته الاصطلاحية، لذلك فالمثل، ضمن هذه المعطيات، يمكن أن يكون قريبًا من العدل حتى ولو بطل الاستعمال النقدي للمعدن

<<  <  ج: ص:  >  >>