للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ثبت هذا بالاستقراء للتكاليف الشرعية طلبًا ومنعاً (١) . فقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء، وينهى عن كل ما يوصل إليه، ويأمر بالشيء، ويأمر بكل ما يوصل إليه، فقد أمر بالمحبة بين الناس، ونهى عن التباغض والفرقة، ونهى عن كل ما يؤدي إليها (٢) . فنهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، وأن يستام (يسوم) على سوم أخيه أو يبتاع على بيعه (٣) . وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى التباغض المنهي عنه ونحوه. وقد أسهب ابن القيم في بيان هذا الأصل وتقريره وإثباته بالأدلة الشرعية (٤) .

ويترتب على المعنى الخاص للذريعة: حسم وسائل الفساد، أي قطعها نهائيًا، ومنه الجائز المؤدي إلى المحظور؛ لأن الشرع نهي عن المفاسد ذاتها، ونهى أيضًا عن كل أمر يتضمن منفعة، لكنه يفضي إلى المفسدة، ولو من غير إرادة المكلف، كشرب الخمر المؤدي إلى السكر، فإنه أمر منهي عنه لذاته؛ لأن الخمر حرمت لعينها، ولو لم تسكر بسبب تناول القليل منها، ونهى الشرع أيضًا عن الأمور المباحة في ذاتها، الموضوعة لمصلحة، لكنها اتخذت وسيلة للمفاسد، كبيع العينة، ونكاح المحلل، وبيع العنب لعاصره خمرًا، وهو المراد بسد الذرائع، ويترتب أيضًا على هذا المعنى في مجال فتح الذرائع إباحة الوسيلة المؤدية لمصلحة مقصودة شرعًا.

والخلاصة: معنى الذرائع ـ كما ذكر القرافي ـ حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة، منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور.


(١) ابن حنبل لأستاذنا المغفور له الشيخ محمد أبو زهرة: ص ٣١٤
(٢) أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) .
(٣) حديث متفق عليه بين أحمد والشيخين عن أبي هريرة: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه) . ولمسلم: (ولا يسوم المسلم على سوم المسلم) (سبل السلام ٣/ ٢٢ ـ ٢٣، ط الحلبي) .
(٤) إعلام الموقعين ٣/ ١٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>