للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكم الذرائع:

قد أجمع الفقهاء على النوع الأول، وهو الذي يكون إفضاؤه إلى الفساد قطعيًا عادة بأنه ممنوع، وعن هذا القسم قال الإمام القرافي في كتاب الفروق:

(بل الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه كحفر الآبار في طرق المسلمين فإنه وسيلة إهلاكهم فيها، وكذلك إلقاء السم في أطعمتهم، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها) (١) .

أما النوع الثاني: وهو الذي يكون أداؤه إلى الفساد نادرًا فلا يحكم بمنعه، يقول القرافي:

وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر فإنه لم يقل به أحد وكالمجاورة في البيوت خشية الزنا (٢) .

أما النوع الثالث: وهو ما يغلب على الظن كونه موجبًا للفساد فقد ذهب العلماء إلى حظره ومنعه كالنوع الأول؛ لأن الشرع يقيم الظن الغالب في محل العلم واليقين في عامة الأحوال، وكثيرًا ما نرى أن ارتكاب مثل تلك الذرائع يوجب ارتكاب الممنوعات، وادعى القرافي الإجماع على منع هذا النوع مثل النوع الأول، فيقول:

(وما يغلب على الظن إفضاؤه إلى المفسدة أن هذا القسم قد أجمع على سده، كالمنع من حفر الآبار في طرق المسلمين إذا علم وقوعهم فيها أو ظن، وإلقاء السم في أطعمتهم إذا علم أو ظن أنهم يأكلونها فيهلكون) (٣) .

ولكن العلامة ابن القيم أنكر الإجماع على منع هذا النوع في كتابه إعلام الموقعين، وحكى فيه خلاف العلماء قائلًا: إن بعض الشافعية وابن حزم روي عنهم الخلاف في هذا الصدد (٤) .

أما النوع الرابع: وهو الذي لا يؤدي إلى المفسدة لا غالبًا ولا نادرًا، ولكن ربما يفضي إليها واختلف وجهات العلماء في حكم هذا النوع من المنع والجواز، فذهب الإمام أبو حنيفة والشافعي وابن حزم إلى عدم منع هذا القسم، وذلك لأن الفساد ليس غالبًا في هذه الصورة، والاعتبار للغالب ويستنتج من ذلك أن العقود والأعمال التي لا تؤدي إلى الفساد غالبًا لا تكون محظورة.

وأما الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل فإنهما يمنعان الذرائع في تلك الصورة كذلك، ويقولان إن ذلك الفعل ربما لا يبقى على إباحته الأصلية، لكونه موجبًا للفساد في كثير من الأحوال ونجد لذلك نظائر وشواهد كثيرة في الشرع مثلًا: الخلو بالمرأة الأجنبية، وسفر المرأة مع الرجل الأجنبي، فإن خوف الفتنة في هاتين الصورتين ليس غالبًا ولا نادرًا، فربما تقع الفتنة وربما لا تقع، ولكن الشرع الإسلامي قد منع من ذلك أيضًا فعلم من ذلك أنه يجب سد هذا النوع من الذرائع كذلك.


(١) الفروق ٢: ٣٢
(٢) الفروق ٢/ ٣٢
(٣) الفروق ٣/ ٢٦٦
(٤) إعلام الموقعين ٣/ ١٣٦

<<  <  ج: ص:  >  >>