وإن كانت المالكية والحنابلة اشتهروا بأخذ سد الذرائع وما أتى به الحنفية في المصادر والأحكام ولم يفردوه بالذكر في أصول الفقه مستقلًا ولا سموه بتلك التسمية ولكن أعملوه في الفروع الفقهية كالفقهاء الآخرين كما يبدو واضحًا من التأمل في مجتهداتهم واستنباطاتهم، وخصوصًا راعوه في أبواب المعاملات ولا بد لمعرفة نظرة الحنفية في سد الذرائع دراسة ثلاثة أمور:
الأول: ما هي مكانة سد الذريعة عندهم في أصول الفقه؟
الثاني: وما هي الضوابط مبناها وأساسها على ذلك التصور في القواعد الفقهية؟
الثالث: وما هي الشواهد من جزئيات فقههم على العمل بسد الذرائع؟ تدور محادثتي الآن حول سد الذرائع عند الحنفية باعتبار تلك الجوانب الثلاثة في ضوء أصول الفقه:
وعند الأحناف أصل معروف ومهم هو الاستحسان وإن اختلف آراء العلماء الحنفية في حده ولكن ترجع كلها إلى شيء واحد هو ترك القياس بأقوى الدلائل والمصالح يسمى استحسانًا هذا الدليل القوي قد يثبت بالنص من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مصلحة راجحة تلائم مجموع طبيعة الشريعة الإسلامية، والأول يسمى استحسان النص والثاني يدعى باستحسان الضرورة أو العرف.
ويتبين من التأمل أن ضابطة سد الذرائع تأتي تحت القسم الثاني من قسمي الاستحسان؛ لأن مصالح الشريعة خمسة، حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ النسل وحفظ العقل، وحفظ المال، وتحمل تلك المصالح الخمسة ثلاثة مدراج: الضرورة، والحاجة، والتحسين، وما سبق من الأحكام الفقهية في تطبيق سد الذرائع عليها يقصد بها حفظ الدين عمومًا، وهي تنزل بمنزلة الحاجة للاتقاء من ارتكاب قسم من أقسام المحرمات الدينية، والقياس يقتضي أن تكون مباحة لأنه لم تكن بنفسها ممنوعة لكنها توصل الإنسان إلى اقتراف محظور شرعي فصارت ممنوعة سدًا لباب المحرمات وهذا هو سد الذرائع.
وما قسم الفقهاء الحنفية الحرام إلى قسمين حرام لذاته وحرام لغيره فإذا كان ثانيهما مبنيًا على الاجتهاد غير منصوص عليه فلا يختلف مقصده من غرض سد الذرائع بل هو يحقق منشأة في الواقع.
فاتضح فيما تقدم أن الاستحسان عند الحنفية ضابطة جامعة كاملة تشمل عدة مصادر شرعية ضمنية، ولذا لم يشعروا بأي حاجة إلى إتيان بسد الذرائع منفردًا مستقلًا.