للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولاحظ ابن القيم أن الذرائع اتبع جلها لدفع الفساد، وأيضا يوخذ بها لجلب المنافع، وهذا يؤيده ما قال القرافي من أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتباح وتندب كما سيأتي قريبا عن القرافي في كتابه الفروق، فهي حرام إن كان أداؤها للفساد قطعيًا، ومثل ابن القيم لهذه الحالة بمن يعمد إلى حفر بئر قريب من باب داره في طريق مظلمة، فهذه مظنة قطعية لسقوط المارة فيها فيجب منعه من ذلك سدا لذريعة ما يجره من فساد، فإذا كان أصل الفعل مأذونا فيه ولكن سيجر إلى فساد مقطوع به، فإنه يكون ممنوعا هنا بإجماع فقهاء المسلمين بسبب الضرر الذي سيترتب عليه، فيرجح جانب الضرر على جانب النفع الشخصي الذي يمكن أن يحصل لصاحب البئر أو غيره من أصحاب الأمثلة التي ذكرنا.

القسم الثاني: الذي لم تسد فيه الذريعة هو احتمال ضرر بعيد، يمكن أن تأتي في استخدام وسيلة للحصول على غرض مباشر ومؤكد مثل غرس العنب، فلا تسد الذريعة فيه خشية أن يعصر منه خمر؛ لأن ما يترتب على الفعل من منافع أكثر مما يمكن أن يتولد عنه من مضار فهذا النوع من الأعمال حلال لا شك فيه.

القسم الثالث: أن يكون الغالب على الظن ترتب المفسدة على الفعل لا من باب العلم القطعي ولكن من باب الظن الغالب، ففي هذه الحالة يرى الشاطبي، ونقل عنه أبو زهرة أن الظن الغالب يقدم ويؤخذ به، فيكون سد الذريعة أحوط حتى لا يقع الفساد؛ لأن الاحتياط في الاحكام الظنية أن تجري مجرى الأحكام القطعية، درءا لما يمكن أن يترتب عن الاحتمال من الراجح من وقوع الفعل المحرم (١) .

القسم الرابع: أن يكون أداؤه إلى الفساد كثيرًا، ولكن كثرته لم تبلغ الظن الغالب للمفسدة ولا العلم القطعي كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا، فهذه الحالات تأديتها للفساد كثيرة، فرأى مالك وأحمد أن سد الذريعة فيها واجب، وهذا القسم كما سنشاهد موضوع اختلاف بين العلماء.

فهل يحرم الفعل ترجيحا للفساد، أم لا يحرم ويؤخذ بأصل الإذن بالفعل؟ فالشافعي وأبو حنيفة رجحا جانب الأخذ بالأصل المباح ومالك وأحمد غلبا جانب الفساد المحتمل احتمالا قويا وقالا بسد ذريعته.

هذه التعريفات والتوضيحات يدرك منها أن الذريعة ما كان من قول أو فعل طريقا مؤديا إلى غيره، واصطلاح مفهوم سد الذرائع هو: منع ما يجوز حتى لا يسوق في تطبيقه إلى فعل ما لا يجوز، وكونه أصلا من أصول الشريعة لا خلاف فيه، ولكن التوسعة في تطبيقه نسبت إلى الإمام مالك بسبب تحرياته وحذره ثم توسع المالكية في سدها من بعده في كثير من المعاملات التي خالفهم جل فقهاء الأمصار في موقفهم منها، وإن كانوا لا يخالفونهم في أصل القول بالذرائع في الحدود التي يسوق فيها تطبيق الحالات المباحة إلى أرجحية الوقوع في المفسدة المنهي عنها (٢) . ولقد مثلنا في عدة فقرات من هذا البحث بالحالات التي وقع الإجماع عليها وقسمها ابن القيم أربعة أقسام هي:


(١) من كتاب الشاطبي بالمعنى وليس بالحرف.
(٢) أخذته بالمعنى من الموافقات للشاطبي ج٢ ص ٢٤٩، وتابعه أبو زهرة في كتاب أصول الفقه ص ١٩١

<<  <  ج: ص:  >  >>