للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الثاني

الأحكام العامة للذرائع

إن فتح الذريعة أو سدها يترتب بحسب الأثر الذي ينجم عن استخدام الذريعة فيحكم عليها بحسب الهدف الذي يتحقق إما باستعمال سدها أو تطبيق فتحها، فإذا تمسكنا بسدها ولم نقم بعمل مفيد راجح المنفعة فتخلينا عنه سدا لذريعة ظن بعيد ففاتتنا المصلحة المحققة خشية الوقوع في احتمال بعيد الوقوع لمفسدة، كان هذا السد مذموما لأنه فوت مصلحة محققة خشية الوقوع في مضرة بعيدة الاحتمال، وإذا فتحنا الذريعة بتطبيقها من أجل البلوغ إلى مصلحة ظنية الوقوع بعيدة احتمال التحقق أيضا يكون سدها أفضل من فتحها، ومن هنا يمكننا أن نقول بان سد الذريعة أو فتحها أمور نسبية تستخدم بحسب كل حالة على حدة، فليس لدينا قاسم مشترك يمكننا من فتح الذريعة فيكون فتحها محمودا إذا تحقق أو العكس، بل الدراسات والقواعد والتطبيقات في مختلف المصادر التي بين أيدينا تجعل نسبية الذريعة في الفتح أو السد هي الحكم الأسلم، ولعل مواقف الفقهاء التي سنسوقها تباعا توضح لنا ذلك.

إننا نجد بعض فلاسفة الغرب يتخذ الذريعة الباطلة إلى إدراك المصلحة شيئا مقبولا فهذا الفيلسوف الألماني (نيتشه) قرر أن الباطل إذا كان وسيلة ناجحة لحفظ الحياة، كان خيرا من الحقيقة، وهذا يسير قريبا من المبدأ الذي أباح فك أسرى المسلمين بمال يعطي لسلطان الكفار، فإعطاء المال للكفار حرام، ولكن إذا قصد به إحياء الأرواح المسلمة، كان جائزا على أن المبدأ الفلسفي لا يبقى على إطلاقه في كل الأشياء، إذ توجد بعض الغايات لا يجوز استعمال الوسيلة الباطلة لتحقيقها، فمن شارك في اليانصيب ليبني مسجدًا، أو مدرسة بالمال المتحصل منه، فشرف الغاية ونبل المقصد هنا لا يبرر استخدام تلك الذريعة المحرمة، بل الذي يجوز هو دفع خطر محقق يعرض روح الإنسان أو ماله لخطر لا مفر منه، إذا لم تستخدم تلك الوسيلة شريطة أن لا تكون لمن يستخدمها طريقة غيرها تمكنه من تجنب الخطر.

ولكن الفلاسفة تنزلق نظرياتهم عن الصواب عندما نجد هدفهم هو تحقيق النتيجة ليس شيئا غيرها، ذلك أنهم يطلبون هدفا معينا ولا تهمهم الوسائل أو الذرائع التي يمكن أن تستخدم لتحقيقه، فعندهم أن " أية فكرة أو رأي أو اعتقاد ما دام للإنسان فيه قيمة علمية فهو ذريعة بصرف النظر عن كونه صحيحا أو باطلا أو خطأ حقيقيا أو وهميا " (١) .

إذا كانت الذرائع في هذا المذهب لا تهتم بالأحكام، فإنها تهتم باستخدام الجانب اللغوي للذريعة كوسيلة من وسائل البحث العلمي إما عن الذات أو الأفكار، والآراء وبالتالي يبين أن الذريعة من المسميات، التي استخدمتها جل المعارف الإنسانية.

أما فقهاء الإسلام فإنهم بحثوها كما سلف في المقدمة انطلاقا من الغرض الذي يوصل إليه فتحها، وسدها فبما أن الذريعة هي الوسيلة، فإنها أصبحت ينظر إليها بحسب ما يمكن أن ينشأ عنها من المقاصد، لذلك كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة.


(١) كتاب سد الذرائع في الشريعة الإسلامية تأليف محمد هشام البرهاني "٦٤" الريح

<<  <  ج: ص:  >  >>