أما الإمام مالك وأحمد فإنهما نظرا إلى الموضوع من وجهة نظر أخرى، حيث اتبعا قاعدة الراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه واحترازا من إمكانية انتهاك حدود الله، يتعاطى بعض المعاملات المنصوص على حرمتها، فإنهما قالا بمنع التصرفات التي يمكن أن تجر إليها، سد لذريعة انتهاك الحرمة الوارد فيها نص قطعي، فقررا أن الفعل إذا حصل مشوبا ببعض تلك العيوب السالفة فإن العقد يبطل والتصرف يحرم، للاحتياط لأنه مع كثرة الضرر مع أصل الإذن، فإن ذلك ينجم عنه وجود أصلين هما: الإذن الأصلي، والأصل الثاني، ما في الأصل أو العقد من كثرة الإضرار بغيره فيرجح حينئذ جانب الضرر لكثرة المفاسد؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المصالح، ويستشهد لهذا الرأي بآثار صحيحة وردت بشأن تحريم أمور كانت في الأصل مأذونا فيها لأنها تؤدي في كثير من الأحوال إلى مفاسد، إن لم تكن غالبة ولا مقطوعا بها فإن الاحتمال القوي وارد في إمكانية حصولها، مثل الخلوة بالمرأة الأجنبية، وكسفر المرأة من غير مصاحبة زوجها أو ذي محرم منها فأتى التحريم عند أصحاب هذا الرأي نتيجة لما يترتب على ذلك الإجراء من مفاسد، ومع كثرتها ليست مقطوعة ولا غالبة، فأصبح سد الذريعة فيها أولى حتى لا يقع المسلم فيما تؤدي إليه من مفاسد وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف حتى لا يجر إلى الربا، وكما قلنا قبل بأن القرافي قال بأن هذه الحالات وصلت إلى أزيد من ألف، وعبر عنها بالذرائع وعزا لمالك سدها جميعا وخالفه الشافعي في ذلك كله.
فمعنى هذه الذرائع في المذهب المالكي: هو حسم مادة الفساد دفعا لها، فمتى كان الفعل السالم وسيلة للمفسدة فمالك حرمه، قال ابن العربي إنه كل عمل ظاهره الجواز يتوصل به إلى المحظور كما فعل اليهود في احتيالهم لصيد الحيتان، ففي بيوع الآجال كما تقدم، مالك خشي أن يكون سلفا جر منفعة توصل إليه الطرفان بحيلة توهم أن الأمر يقتضي مبايعات تمت على الشروط التي يجب توافرها في أي عقد للبيع، أما الشافعي فحمل الأمر على الظاهر وترك ما في نيتهما إليه فالله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.