ثم هذا القسم من الذرائع نوعان:
أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته، فهنا أربعة أقسام:
الأول: وسيلة موضوعة إلى المفسدة.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
ثم ذكر رحمه الله أن الشريعة جاءت بإباحة القسم الرابع ومثل له بما يلي:
١- النظر إلى المخطوبة.
٢- فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي.
٣- كلمة الحق عند ذي سلطان جائر.
وقال: فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المفسدة بقي النظر في القسمين الوسط هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ وجزم بالمنع من عدة وجوه بلغت تسعة وتسعين وجها ونذكر في هذا المبحث مختارات منها:
١- قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨] وكانت المصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، قال: وهذا كالتنبيه أو التصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
٢- قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: ٣٦] فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
٣- نهى الله تعالى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
٤- ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) . فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده.
٥- إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم إن محمدا يقتل أصحابه.
٦- أن الله تعالى أمر بغض البصر سدا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.
٧- أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المقرض من قبول الهدية وكذلك أصحابه حتى يحسبها من دينه لئلا يتخذ ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا.
٨- النهي أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار ولهذا لا تقام الحدود في الغزو.
٩- أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يشهد على اللقطة، وقد علم أنه أمين وما ذاك إلا سدا لذريعة الطمع والكتمان، فإذا بادر وأشهد كان أحسم لمادة الطمع والكتمان، قال: وهذا أيضا من ألطف أنواعها.