للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حجية سد الذرائع:

عرفنا أن الذرائع أصل في الفقه الإسلامي أخذ به أكثر الفقهاء من حيث المبدأ واختلفوا في مقداره، ولم يختلفوا في كونه أصلا ثابتًا. ومن الأمثلة المجمع عليها في سد الذرائع ما جاء من نهي عن سب الأصنام خشية أن تتخذ ذريعة لسب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨] وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: ١٠٤] نهوا عن ذلك حتى لا يكون ذريعة لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل يهود ومن المسائل التي يحكم فيها بالإباحة وهي محرمة أصلا من باب الذرائع.

١- دفع مال فداء للأسرى من المسلمين فإن الأصل في ذلك حرام لما فيه من تقوية للعدو المحارب وما فيه من ضرر بالمسلمين، لكنه أجيز لأنه يتحقق من ورائه حرية طائفة من المسلمين وتقوية المسلمين بإطلاق سراحهم، وهذا من باب الأخذ بفتح الذرائع لا بسدها.

٢- دفع مال من المسلمين لدولة محاربة لدفع أذاها إذا لم يكن للمسلمين قوة يستطيعون بها حماية أنفسهم.

٣- دفع الرشوة لدفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بها على تفصيل لدى الفقهاء وينظر في مظانه.

٤- أعطاء المال لمن يقطعون الطريق على الحجاج أو التجار والمسافرين ونحوهم فقد أجاز ذلك بعض المالكية وبعض الحنابلة (١) .

ويدعي بعض الفقهاء أن مبدأ سد الذرائع مما اختص به مالك وتابعه أحمد رحمهما الله.

غير أن القرافي رحمه الله يقول: "أجمع الفقهاء على أن الذرائع ثلاثة أقسام:

أحدها: معتبر إجماعا كسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى.

ثانيها: لا عبرة به إجماعا كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر.

وثالثها: مختلف فيه كبيوع الآجال نحن اعتبرنا الذريعة فيها وخالفنا غيرنا.

فحاصل القضية أننا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا لأنها خاصة بنا (٢) .

مثال: من باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر ثم اشتراها بخمسة قبل شهر، فمالك يقول إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل وراء ستار من البيع الصوري، والشافعي ينظر إلى صورة البيع فيجيزها ويحمل الأمر على ظاهره؛ لأن الربا وإن يكن حراما فإن صورة هذا البيع لم تتعين وسيلة للربا وذريعة إليه لا بطريق العلم ولا بطريق الظن وإن كثر ترتب الغاية المحرمة على تلك الصورة من صور البيع.

فمالك يعتبر الكثرة ركيزة التحريم، والشافعي يعتبر أن الأصل في التصرف هو الإذن ولا يلغى هذا الأصل إلا بدليل يوجب العلم أو غلبة الظن على الأقل، ولا يكفي الحدس لإلغاء الأصل في البيع (٣) .


(١) انظر أصول الفقه للمرحوم الشيخ محمد أبو زهرة ص ٢٨٨
(٢) انظر تنقيح الفصول ص ٤٢٩؛ والفروق له ج٢ ص٣٢
(٣) انظر بحث سماحة المرحوم الشيخ صلاح أبو إسماعيل في كتاب بحوث المؤتمر الرابع للفقه المالكي ص٧٠٢-٧٠٣

<<  <  ج: ص:  >  >>