للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويشترك التحكيم والإفتاء – كذلك – في أن كلًّا منهما لا يتطلب ولاية من الإمام؛ لأن التحكيم يستمد قوته من رضاء المحتكمين، كما أن الإفتاء يستند إلى طلب المستفتي، ومن ثم فلا يحتاج أي منهما إلى ولاية عامة، وإن كان ذلك لا يقف دون حق الإمام في مراقبة سير الأمور في الدولة، بما في ذلك تفقد حال من يتصدون للإفتاء أو يحتكم الناس إليهم في منازعاتهم، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عاد، وطريق الإمام في ذلك أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم: أما أحوال المحتكم إليهم، فإن له عليهم ما له على القضاة الأعلى منهم منزلة، من تفقد حالهم وسؤال أهل الصلاح والفضل عنهم (١)

ويشترك التحكيم مع الفتوى – أيضًا في حق كل من الحكم والمفتي في أن يرد من يطلبه، فالتحكيم لا يثمر التفويض فيه إلا برضاء المحتكم إليه، ولا ضير على المحتكم إليه إن لم يقبل، إذ إن وضعه يختلف عن وضع القاضي المولى، فهذا الأخير لا يستطيع أن يرد طالب القضاء ولا أن يحيله إلى غيره دون مبرر، وإلا عزر لارتكابه إثمًا، وكذلك المفتي لا يجب عليه أن يجيب السائل إلى الفتيا إلا إذا تعين للإفتاء، فإذا كان هناك أكثر من واحد، صارت الفتوى بينهم ندبًا لا وجوبًا (٢) .

ومع اتفاق كل من التحكيم والإفتاء فيما سبق، فإن طبيعة كل منهما تختلف عن طبيعة الآخر، فالمحتكم إليه عليه أن يمحص واقعات الدعوى وأن ينقيها بتتبع الحجج التي يلقى بها كل خصم، فإذا ما وضحت لديه حقيقة الواقعة، أنزل عليها الحكم الذي يستقيه من القرآن الكريم أو يأخذه من السنة المطهرة، أو يستنبطه من سائر الأدلة الشرعية، حتى إذا اطمأن وجدانه، قضى بين الخصمين بالحكم الذي يرى أنه تطبيق لشرع الله، أما المفتي فلا شأن له – بحسب الأصل – بالحجج الواقعية، فهو يأخذ الواقعة كما يرويها المستفتي، وينزل عليها حكم الله، دون أن يجهده في ذلك تمحيص تلك الواقعة، أو تنقيتها مما قد يخالطها من زيف أو مغالطة، على نحو ما قد يفعله المتخاصمون في التحكيم من لجج في الخصومة أو دهاء في العرض أو إلباس الحق بالباطل (٣) .


(١) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام – لابن فرحون طبعة مصطفى الحلبي - ج١ ص ٧٧ – الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي ص ٩٧ – ١٠٦ رسالة دكتوراه، الزهراء للإعلام العربي.
(٢) الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – المرجع السابق – ص ١٠١ – ١٠٦ المراجع المشار إليها منه تفصيلًا
(٣) الدكتور محمد عبد الرحمن البكر – المرجع السابق ص: ١٠١، ١٠٦ – المراجع المشار إليه منه تفصيلًا

<<  <  ج: ص:  >  >>