للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويرتبط بما تقدم أن التحكيم لا يكون إلا في خصومة حقيقية بين أكثر من خصم، فإذا لم تكن هناك خصومة في الواقع، فلا مجال للتحكيم، أما الإفتاء فلا يستلزم توافر مثل هذه الخصومة، فقد يستفتي الشخص في أمر يرى أهمية أن يعرف حكم الله فيه، دون خصومة قائمة أو محتملة، كمن يرى – مثلًا أهمية أن يعرف حكم الله في إيداع النقود في البنوك على هيئة وديعة مصرفية.

وما دام التحكيم لا يكون إلا في خصومة، فإنه من الطبيعي أن يكون ملزمًا، إذ إن المتخاصمين لم يلجأ إليه إلا بقصد حسم ما شجر بينهما من نزاع، وقد ظلّا على تفويضهما للمحتكم إليه حتى صدر منه الحكم، مما ينطوي ضمنًا على إعلان بقبول ما ينتهي إليه الحكم المفوض، وذلك بخلاف الحال في الفتوى، إذ إن المستفتي لم يعلن – صراحة أو ضمنًا – قبوله مقدمًا للفتوى، ولا تعهده بتنفيذها، وليس في مجرد توافر ثقته في قدرة المفتي ما يستتبع حتمًا موافقته على تنفيذ ما يصدر عنه، وإن كان ذلك لا يعني أنه غير مطالب بتنفيذ هذه الفتوى ديانة ما دام قد اطمأن إليها (١) .

ونتيجة لما تقدم جميعه، فإن التحكيم يصبح أضيق دائرة من الفتيا، فلا تحكيم في المكروهات، أو المستحبات؛ لأنه لا إلزام فيهما، وإنما الإلزام في الواجبات والمحرمات والمباحات، أما الإفتاء فإنه يجوز في ذلك كله.

ومن ناحية أخرى فإن التحكيم لا يكون في العبادات ونحوها، فلا تحكيم في صلاة – مثلًا – ليصدر فيها حكم بأنها صحيحة أو باطلة، وتحكيم في المسائل العلمية الكلية، كمعنى آية أو تفسير حديث شريف، وإنما قد تكون الفتوى في ذلك؛ لأن بيان حكم الله يتناوله جميعًا ويتناول غيره، كما أن الشبهات التي قد تسعى الفتيا إلى إزالتها لا تنحصر في أمر دون آخر من العبادات أو المعاملات أو الآداب أو العادات أو الأحكام الاعتقادية أو غيرها من أمور الدين والدنيا، ثم هي لا ينصب أثرها على المستفتي وحده، وإنما يتعلق بالناس كافة، ولا ينطبق حكمها على الواقعة المعروضة وحدها، وإنما ينطبق على كل واقعة مماثلة، ولذلك تردد في الفقه الإسلامي أن الفتوى – في حقيقتها – عامة غير ملزمة أما التحكيم فهو جزئي ملزم.


(١) ومثل التحكيم في ذلك القضاء، وذلك فإن ما يصدر عن القاضي دون أن يسبقه دعوى صحيحة من خصم على خصم لا يعد حكمًا، وإنما هو: (إفتاء كما صرح به البحر وغيره، وتسجيل ذلك بسجل المحكمة لا يغير حقيقة هذا القول الشرعية، وهي أنه إفتاء) فتوى الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق المنشورة في المجلد السادس من الفتاوى ص ١٩٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>