للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١١- وإذا كان التحكيم يختلف عن الفتيا على نحو ما سبقت الإشارة إليه، فإنه يختلف – كذلك – عن القضاء وإن اشتبه به في أمور كثيرة.

ومواطن اشتباه التحكيم بالقضاء تجمل في أن كلًّا منهما يطبق شرع الله على خصومة مرفوعة إليه للفصل فيها بحكم ملزم لطرفيها المتناضلين أمامه فيها.

فلا محل في أي منهما للحكم بالهوى والتشهي، فقد أمر الله بالاحتكام إلى شريعته عند التنازع، دون تفرقة بين تحكيم وقضاء، فقال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: ٤٩] .

ويتفرع عن ذلك كلًّا من القاضي والحَكَم لا يتقيد بآراء من اختاره لهذا العمل، فالقاضي يقضي بما يراه حقًّا ولو جانب رأي الوالي الذي عينه، والحكم يحكم بما يعتقد صحته ولو خالف رأي أحد الخصمين أو كليهما.

والتحكيم يشبه القضاء في أنه يفصل في خصومة من نوع الخصومات التي يختص بها القضاء وفق وظيفته الطبيعية، فحكم المحكمة كحكم القاضي، لا يصدر إلا في دعوى صحيحة، وشرط هذه أن تكون في خصومة حقيقية.

وهو كالقضاء لا يتصدى لمنازعات الناس من تلقاء نفسه، وإنما يجب أن ترفع إليه، فليس بتحكيم ولا قضاء ضبط وقائع ولا فصل في خصومة لم ترفع من ذوي الشأن، وإنما قد يكون ذلك من أعمال الولاية العامة التي يمارسها الوالي بحكم إشرافه ورقابته على الرعية، أو من أعمال ناظر المظالم التي ينظرها متى علمها دون أن ينتظر تظلم متظلم، أو من أعمال الحسبة التي تتعلق بمنكر ظاهر، كدعاوى تطفيف الكيل وبخسه، ودعاوى الغش والتدليس في المبيع أو الثمن.

والتحكيم في فصله للخصومة المعروضة يصدر حكمًا ملزمًا لطرفي الخصومة المحتكمين إليه مثله في ذلك مثل القضاء، فحكم كل منهما جزئي خاص لا يتعدى المحكوم عليه ولا يجاوز محله إلى ما يماثله (١) .


(١) الدكتور محمد عبد الرحمن البكر، السلطة القضائية وشخصية القاضي في النظام الإسلامي – المرجع السابق- وقد نقل عن ابن القيم وعن الخرشي بعض النصوص المؤيدة لطبيعة القضاء، كما ذكر مراجع عدة في هذا الشأن (ص ١٩١، ١٩٤، ١٩٥) وراجع الدكتور محمد نعيم ياسين في نظرية الدعوى بين الشريعة الإسلامية وقانون المرافعات ص ٧، ٩؛الدكتور حامد محمد أبو طالب – التنظيم القضائي الإسلامي ص ١٧ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>