للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غير أن التحكيم مع اشتباهه بالقضاء في كل ما تقدم، فإنه يفترق عنه في أمور كثيرة، وسبب الاختلاف بنيهما يرجع إلى أن مصدر السلطة في كل منهما يختلف عن مصدرها في الآخر، فالتحكيم يستمد سلطته – بصفة عامة – من رضاء آحاد من الناس بحسم الخصومة بنيهم على يد حكم يرضونه، أما القضاء فيستند في سلطته إلى ولاية عامة يخلعها عليه من يملك ذلك، حين ينصبه قاضيًا يحكم بين الناس، فيما يرفعه إلى أي منهم، ويكون قضاؤه بحكم، يلزم به من يرى أنه أحق بإلزام، رضي به أم لم يرض، طالما أنه مكن من إبداء ما قد يكون لديه من دفاع.

فاستناد التحكيم إلى رضاء من يلجئون إليه، يضع في يد هؤلاء الحق في رسم نطاق محدد، لايحق للمحتكم إليه أن يتعداه، ويجعل ناصية الأمر بأيديهم كذلك، فيستطيعون – بحسب الأصل – أن يعدلوا عن التحكم أيًّا كان موقعهم من الخصومة، مدعين أو مدعى عليهم، وذلك طالما لم يصدر الحكم أو لم يشرع الحكم في أصدراه، على خلاف في ذلك بين العلماء، أما القضاء فإن استناده إلى الولاية العامة، يحرم المتقاضيين من رسم نطاق التقاضي إلا في حدود محصورة (١) كما يحرم الخصوم من إنهاء الخصومة دون حكم إلا في حالات محددة ولا يقتضي التقاضي ضرورة حضورهم، فيجوز الحكم على الغائب منهم، إذا تخلف عن الحضور دون عذر شرعي مقبول.

ومن ناحية أخرى، فإنه ما دامت سلطة المحتكم إليه تستند إلى رضا المحتكمين به، فإن لهؤلاء الحق في عزله، بحسب الرضاء منه، أما في القضاء فلا محل لتخويل المتقاضين حق عزل القاضي؛ لأنه لا يستمد سلطته منهم، بل إن القاضي نفسه على خلاف المحتكم إليه لا يملك التنحي عن الفصل في الخصومة دون مبرر شرعي؛ لأن قضاءه فيها واجب عليه، وليس حقًّا له يخضع لقبوله ورضاه.


(١) إرادة الخصوم ليست معدومة الأثر أمام القضاء فمن مظاهر هذه الإرادة أمام المحاكم أنه وإن كان أحد طرفي الخصومة هو الذي يقيمها، فالطرف الآخر قد يكون له مصلحة في الإبقاء عليها أما القضاء رغم أنه ليس هو الذي أقامها، وقد يكون من مظهر هذا في بعض النظم الوضعية عدم إجازة النزول عن الخصومة للمدعي، إلا إذا قبل الخصم هذا التنازل، وهي قاعدة مطلقة في بعض هذه النظم ومقيدة بقيام مصلحة فعلية للمدعى عليه في الإبقاء على الخصومة، في نظم أخرى. وقد يتفق الخصمان على إقامة النزاع أمام محكمة ما، دون المحكمة المختصة أصلًا بنظر النزاع، أو أمام محاكم دولة معينة دون محاكم دولة أخرى تكون هي المختصة في الأصل بنظر النزاع، أو قد يتفقان على النزول عن الخصومة. (وتمكن إرادة الخصوم في الاتفاقات، وفي العقود، وعند الإتيان بفعل ضار، أو عند مخالفة القانون على وجه العموم، تكمن هذه الإرادة في الالتجاء إلى القضاء عند الحاجة لحماية الحقوق وإن كانت لا تبدو صريحة في العقود، فإرادة الخصوم التي ترمي إلى إنشاء حقوق أو التزامات تقدر مقدمًا أن جزاء الإخلال بهذه أو تلك هو التجاء إلى القضاء) – الدكتور أحمد أبو الوفا – التحكيم الاختياري والإجباري، ص ١٧ وهامش: ١ من ذات الصفحة

<<  <  ج: ص:  >  >>