للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا تكشف النماذج السابقة عن ضعف حكم التحكيم إذا قورن بالحكم القضائي، كما تكشف الطبيعة الرضائية للتحكيم عن أن نطاقه أضيق من نطاق ولاية القضاء، فهو لا يتعدى النازلة التي حكم فيها، ولا الأشخاص الذين ارتضوه، وهو غير لازم قبل الشروع فيه، ولا يستطيل إلى بعض المنازعات والخصومات التي يستأثر القضاء المولى بها وحده.

على أنه ومع ذلك كله، فقد يكون التحكيم مطمعًا، دون القضاء، وذلك كما إذا منع ولي الأمر القضاء من سماع الدعوى في منازعات معينة، كتلك التي تقادم عليها العهد، وقبل الأطراف ذوو الشأن أن يحتكموا في أمرها إلى محكم، كما قد يكون التحكيم بالغ الخطورة إذا صدر الاحتكام ممن له ولاية عامة بصفته في أمور تتصل بالنفع العام، كالتحكيم لإنهاء الحرب، أو التحكيم لإنهاء نزاع يتصل بمصلحة عليا للدولة أو باختيار الخليفة أو الوالي أو نحو ذلك.

هذا إلى جانب أن التحكيم قد يعد مخرجًا من كثير من المشاكل التي تقف في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية، إذا ما أحسن وضع القواعد المنظمة له، بما يكفل تطويع القواعد الوضعية للحكم بشريعة الله.

١٢- ومع ما هو مسلم به من أن التحكيم الرضائي يمكن، يؤدي دورًا هامًّا في المجتمع الإسلامي، فإن قيامه على الرضائية لا يكفي – وحده – لإسباغ المشروعية عليه، ذلك أن هذا التحكيم يصطدم مع واجب الدولة الإسلامية في أن توفر – هي – العدل والأمن لكل الرعايا، ويتعارض مع حقها في أن تنفرد بفرض سيطرتها عليهم في هذا الشأن، دون أن يكون من حق أي منهم أن يتحرر من هذه السيطرة.

فالعدل وظيفة رئيسية للدولة الإسلامية، ألزمها به القرآن الكريم وفق ما تشير إليه آيات عدة، منها قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: ١٥] وقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: ٨] ، بل إن الكتاب المحكم أشار إلى أن ذلك من لوازم الرسالات السماوية جمعاء، فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٢٥] .

<<  <  ج: ص:  >  >>