للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإقرار الأمن بين الرعية هو – أيضًا – من أهم واجبات الدولة الإسلامية، وبدونه لا يتحقق التكريم الذي أنعم الله به على بني آدم، ولا يكون هناك جدوى من أن يسخر لهم ما في السموات وما في الأرض؛ ذلك لأن افتقاد الإنسان للشعور بالأمن والأمان ينتقص من تكريمه، ويحرمه من الاستماع الحقيقي بما سخر له.

ولذلك فقد أمر الإسلام بأن لا يؤاخذ أحد دون تثبيت أو تحقيق، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: ٦] ، كما أمر الإسلام كذلك بوجوب التعمق في الفهم وتحميص الوقائع التي تعرض، وصولًا إلى الحكم الصحيح عليها، ومن ذلك ما يشير إليه قوله سبحانه: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء ٧٨ – ٧٩] .

وفرض العدالة وإشاعة الأمن، يتطلبان دائمًا الاستناد إلى سلطة الدولة وسيادتها، ويمثلها في هذا الشأن القضاء الذي تقيمه وتختاره قضاته ونظمه الشكلية والموضوعية، ومن ثم فتأمر برفع الخصومات إليه، والالتزام بما يقضي به، وتنفيذه تنفيذًا كاملًا، على نحو مما تشير إليه الآية الكريمة: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥] ، كما تأمر الدولة أيضًا – بوجوب المثول بين يديه والاستجابة لطلب الحضور لإجراء المحاكمة، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٥٢) } [النور ٤٨ – ٥٢] .

ومن ثم فإنه إذا كان التحكيم – في حقيقته – اختصاصًا ببعض المنازعات التي يختص بها القضاء بحسب الأصل، وإبعادًا لها عنه، بالسماح للمتخاصمين بأن يأتمروا بأمر من لا تنبثق سلطته من سلطة القضاء، ولا تتفرع ولايته عن أي ولاية أخرى من ولايات الدولة، فإن ذلك العدوان على القضاء، والانتقاص من سلطانه لا يملك الأفراد بإرادتهم – وحدها – أن يصلوا إليه، حتى ولو كان انتقاصًا غير حاسم، بمعنى أنه إذا لم ينفذ التحكيم، أو لم تتكامل إجراءاته، تعود إلى القضاء سلطة الحكم في المنازعة ويجبر الخصم على المثول أمامه والرضوخ) لأحكامه، أو كان انتقاصًا مؤقتًا، لا يحرم القضاء في النهاية من سيطرته، إذ ستكون له اليد العليا على الحكم الذي يصدره التحكيم فيلغيه، أو يمنع تنفيذه إذا رأى أنه خرج على القواعد الواجبة الاتباع سواء أكانت موضوعية أم إجرائية، فهذا الانتقاص من سلطان القضاء – مهما كان – لا يملكه الأفراد بإرادتهم، وإنما يتعين أن يكون هناك بيان من المشرع الحكيم، يمنح إرادتهم هذا الحق، ويحدد لها مداه، وبالتالي فإن الأخذ بنظام التحكيم الرضائي يستلزم – حتمًا – أن يكون هناك من الأدلة الشرعية ما يسمح بتطبيقه.

<<  <  ج: ص:  >  >>