للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٣ – ولعل من أبرز الأدلة على مشروعية التحكيم هو ما زخرت به السنة المطهرة من آثار قولية وفعلية تشهد بذلك (١) .

فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد قال: (حدثنا أحمد بن يعقوب، قال: حدثنا يزيد بن المقدام بن شريح بن هانئ الحارثي، عن أبيه المقدام، عن شريح بن هانئ قال: حدثني هانئ بن زيد أنه لما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه، فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنيت بأبي الحكم، فلم تكنيت بأبي الحكم؟)) . . . . قال: لا، ولكن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين. قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا!)) . . . . ثم قال: ((ما لك من ولد؟)) . . . .قلت: شريح وعبد الله ومسلم وهانئ، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: ((فأنت أبو شريح. ودعا له ولولده)) .

فالحديث واضح الدلالة على أن القوم كانوا يختارون أبا شريح حكمًا بينهم فيما يتنازعون فيه، وكانوا يرضون حكمه فيهم، وبالتالي فإن استحسان النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يحمل معنى مشروعية التحكيم الرضائي (٢) .

وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري ما مؤداه ((أن يهود بني قريظة طلبوا الاحتكام إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقبل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرسل إليه فحضر، وقضى بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم)) .

وفي الروايات التي نقلت عن هذه الحادثة ما يؤكد أن بني قريظة اقترحت على سعد بن معاذ حكمًا بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن سعدًا حين حضرا استوثق من رضاء الطرفين بحكمه، كما استوثق من قبولهم تنفيذه، وكان مما فعله في هذا الصدد أنه توجه إلى بني قريظة قائلًا: ((عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت؟)) فقالوا: نعم، ثم قصد الناحية التي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عنه بوجهه إجلالًا له صلى الله عليه وسلم، وقال: وعلي من ههنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)) .

ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم سعدًا وأمضى حكمه. وأن سعدًا حرص على الاستيثاق – جهارًا – من رضاء الطرفين لتحكيمه بينهم، وقبولهم تنفيذ ما يحكم به (٣) .


(١) ورد في بعض الآيات القرآنية إشارة إلى التحكيم، مما قد يستدل به على مشروعيته غير أننا لم نشأ أن نذكرها تفصيلًا، لأننا نرى أن دلالتها على نوع التحكيم الرضائي الذي نتحدث عنه دلالة يتطرق إليها الاحتمال، ومن ذلك قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: ٦٥] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: ٩٥] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: ٣٥] .
(٢) أخرج الحديث أيضًا النسائي في كتاب آداب القضاة ج ٨ ص ١٩٩؛ وعون المعبود شرح سنن أبي داود ج ١٣ ص ٢٩٦ كتاب الأدب.
(٣) وردت هذه الحادثة بروايات متقاربة ثبت بعضها في فتح الباري ج ٧ ص ٤١١؛ وفي مسند أحمد ج ٣ ص ٢٢؛ وصحيح مسلم بشرح النووي ج ١٢ ص ٩٢؛ ونيل الأوطار للشوكاني ج ٨ ص ٦٢؛ وأشار إليه فتح القدير للكمال بن الهمام ج ٥ ص ٤٩٨؛ والكاساني في بدائع الصنائع ج ٧ ص ١٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>