للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٥- على أن من أبرز الوقائع التي تشهد للتحكيم، ولا يماري أحد في وقوعها ولا في طرحها على بساط البحث العلمي بين الصحابة أجمعين، ما جرى من تحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وحزبيهما، فقد اتفقوا على ذلك في خلال عام ٣٧ هجرية، حسمًا للحرب التي دارت رحاها بينهم، وكانت تفاصيل هذا التحكيم من وضوح الدلالة ووضوح الثبوت ما يجعله عظيم الأهمية فيما نحن بصدده، مما يقتضي أن نخصه ببعض التفصيلات التي لا تتجاوز موضوع البحث.

فحين احتدم النزاع بين الحزبين، وبدا لجيش معاوية أنه مقبل على الهزيمة رفع جنوده المصاحف على أسنة الرماح طالبين اللجوء إلى التحكيم، فرفض على كرم الله وجهه الاستجابة لذلك أول الأمر، ثم عاد فنزل على قبوله، فعقدت معاهدة كان طرفاها علي بن أبي طالب وشيعته، الشاهد منهم والغائب، ومعاوية بن أبي سفيان وشيعته، الشاهد منهم والغائب، وتراضى الطرفان على أن يقفا عند حكم القرآن، فيما يحكم به من فاتحته إلى خاتمته، واختار كل منهما حكمًا رضي به، وحددا مكان التحكيم بمنزل وسط بين أهل العراق وأهل الشام (دومة الجندل) ، ووقَّتا أجله بانقضاء شهر رمضان من ذات السنة، ونصَّا في المعاهدة على أنه إذا انتهى الأجل دون أن يحكم الحكمان، فالفريقان على أمرهم الأول في الحرب، وقد أخذ الحكمان على المحتكمين، عهد الله وميثاقه بالرضا بما يحكمان به، وأن ليس لهما نقضه أو مخالفته إلى غيره، ثم أعلنا حكمهما في خلال الأجل المتفق عليه.

وإذا تدارس المسلمون معاهدة التحكيم هذه، انتهوا جميعًا أهل سنة ومعتزلة وشيعة – إلى شرعية ما اتفق عليه المحتكمون من تحكيم، وإلى تصويب علي كرم الله وجهه في قتاله مع معاوية، وفي قبوله التحكيم في خصومته ولم يشذ عن ذلك سوى طائفة محدودة، خرجوا على الإجماع وانتهوا إلى تخطئة علي رضي الله عنه في قبوله للتحكيم، بعد أن كانوا هم الذين دفعوه إلى الموافقة عليه، وكان من أهم ما تساندوا إليه في لجاجهم مع الصحابة ما قالوه من أن تحكيم الرجال يجب أن يقتصر على ما ورد به النص القرآني، كالصيد في الحرم، والشقاق بين الزوجين، ولا يتعداه إلى غيره كدماء المسلمين، وأنه لا مجال للأخذ بالتحكيم في محل النزاع؛ لأن الله قضى في أمر معاوية وحزبه بحكم لا يجب التوقف فيه، فقتالهم كان واجبًا؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: ٩] وحين جنحوا للسلم كان واجب الخليفة أن يجنح معهم له، إن هم قبلوا أن يدخلوا تحت لوائه، فإن أبوا وجب استئناف قتلاهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، وبالتالي فلم يكن هناك مجال للاحتكام إلى الرجال الذين احتكم إليهم على معاوية.

<<  <  ج: ص:  >  >>