للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أجاب فقهاء الصحابة عن شبهة الخوارج هذه بشقيها، فقالوا: إنه لا صحة لدعوى عدم جواز التحكيم في غير ما ورد به النص، كالشقاق بين الزوجين والصيد؛ ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل التحكيم في بني قريظة، وهو من قبيل التحكيم في الدماء، ولم يرد به نص في الكتاب الكريم، وفيما يختص بالإدعاء بأن القرآن حكم في معاوية وحزبه بما لا محل معه للاحتكام للرجال. قالوا: إن كتاب الله الكريم لا يحكم في الوقائع بنفسه، ولكن لابد من الرجال للتحقق من مناط الحكم والتثبت من شروط تطبيق أمر الله (١) .

وأيا ما كان الرأي فيما تساند إليه هؤلاء النفر من الخوارج، فإن الواضح في مناقشاتهم وجدالهم أنهم لا يقرون التحكيم في المحل الذي وقع فيه، أما التحكيم من حيث المبدأ فإنهم يصرحون بشرعيته فيما نزل به القرآن الكريم مثل الشقاق والصيد.

وبذلك تكون واقعة التحكيم بين علي ومعاوية قد كشفت، فيما يشبه الإجماع من الصحابة في العصر الذي وقعت فيه، عن مشروعية التحكيم من حيث المبدأ على أقل القليل (٢)

ونتيجة لهذا، ولما تقدم جميعه، فإن جمهور فقهاء المسلمين قد انتهوا إلى مشروعية التحكيم المبني على التراضي، فكان هذه هو مذهب الحنابلة، والأصح لدى الحنفية والشافعية وعند المالكية (٣) .

على أن القول بجواز التحكيم لا يحول بين ولي الأمر وبين إيجابه على الناس في بعض الحالات أو تحريمه عليهم في حالات أخرى، طالما بقي أصل التحكيم سائغًا؛ وذلك لأن له أن يجعل المباح واجبًا أو محظورًا (٤) ، كما أنه يملك تنظيم القضاء وتخصيصه من حيث الزمان أو المكان أو بالحادثة وبالتالي فهو يملك ذلك بالنسبة للتحكيم الذي هو أدنى مرتبة من القضاء


(١) جاء في مناقشة علي رضي الله عنه للخوارج قوله: نشدتكم الله، أتعلمون حين رفعوا المصاحف قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم فقلتم: لا، بل تقبل، فقلت لكم: احفظوا نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي. وجاء في مناقشة ابن عباس رضي الله عنه لهم أنه قال لهم: ما نقمتم من الحكمين والله سبحانه وتعالى يقول في الشقاق بين الزوجين: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: ٣٥] ، فقالوا: أما ما جعله الله حكمه إلى الناس، وأمروا بالنظر فيه والإصلاح له، فهو لهم كما أمر، وأما ما حكم ما معناه فليس للعباد أن ينظروا فيه. في تفصيلات ذلك: تاريخ الطبري ج ٥ ص ٦٦ وما بعدها؛ البداية والنهاية لابن كثير ج ٧ ص ٢٧٤.
(٢) تناول موضوع التحكيم بين علي ومعاوية عشرات من الكتب منها العواصم من القواصم لابن العربي؛ والفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادي، وآثار الحرب للدكتور وهبة الزحيلي؛ والنظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس؛ وفجر الإسلام لأحمد أمين، فضلًا عن كثير من كتب الفقه والحديث والسيرة.
(٣) الموسوعة الفقهية – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت – الجزء العاشر، ص ٢٣٦ والمراجع المشار إليها فيها
(٤) الدكتور سلام مدكور، الإباحة عند الأصوليين ص ٣٤٠

<<  <  ج: ص:  >  >>