للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل الثاني

طبيعة التحكيم وآثاره

١٦ – يقوم التحكيم – كما سلف البيان – على رضائية يقرها الشرع، ويمنحها ولاية شرعية، تسمح لها بترتيب الآثار التي يتغياها الأطراف ما دامت في الحدود التي ترضاها الشريعة الإسلامية، ومن ثم فإنه حتى يتضح النطاق الذي يستهدفه الأطراف فإنه يجب أن تحدد صيغة الاتفاق الأطراف المحتكمين، والخصومة التي يحتكمون بشأنها، وشخصية الحكم الذي يحتكمون إليه، وما قد يكون هناك من قيود تحدد سلطته من حيث الزمان أو المكان أو غيرها، ومدى التزامهم بالحكم الذي يصدره، ومن ناحية أخرى، فإن غايات الأطراف التي ترسمها صيغة اتفاقهم في وضوح، يجب أن تكون في نطاق القواعد الملزمة التي وضعها الفقه الإسلامي.

واشتراط وقوع الصيغة – لفظية كانت أو غير لفظية – في التعبير عن رضاء الطرفين وضوحًا لا يخالطه شك، مصدره أن التحكيم طريق استثنائي لفض الخصومات، قوامه الخروج عن طرق التقاضي العادية وما تكفله من ضمانات، ومن ثم فلا يحق أن يحرم أحد من الطريق الطبيعي للتقاضي إلا إذا كان ذلك بناء على رضاء واضح منه، لا تشوبه شائبة، ولا تضعفه شبهة، وإلا وجب تفسير الصيغة تفسيرًا ضيقًا، إعمالا؛ لأن الأصل هو الالتجاء إلى القضاء (١) .

أما إذا توافر هذا الوضوح في الكشف عن الإرادة، فإن التراضي على التحكيم يكون قد وجد، وحق لذلك إعمال آثاره أيا كان الطريق الذي وضحت به هذه الرغبة، وسواء أكان إبداؤها شفاهة أم بالكتابة أم بالإشارة أم بتبادل الرسائل أم بإيجاب من أحد المتخاصمين وقبول فعلي من الطرف الآخر (كأن يترافع أمام المحكم الذي اختاره الخصم دون أن يحتفظ في ذلك) أم باتخاذ أي مسلك آخر لا تدع ظروف الحال شكًّا في دلالته على التراضي، وذلك كله وفق ما يراه الجمهور، وعلى الأخص ما صرح به المالكية والحنابلة (٢) .


(١) يصرح فقهاء القانون بأن الرضا بالتحكيم لا يفترض، وأن عبارات عقد التحكيم يجب أن تفسر تفسيرًا ضيقًا. (الدكتور أحمد أبو الوفا – التحكيم الاختياري والإجباري – مرجع سابق ص ٢٨) .
(٢) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج ٣ ص ٣. ويقول الحطاب في الاستدلال على مذهب المالكية: (إن الأفعال وإن انتفت فيها الدلالة الوضعية، ففيها دلالة عرفية وهي كافية) (ج ٤ ص ٢٢٨) . ويقول المغني في الاستدلال على رأي الحنابلة: (... ولأن الإيجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي، فإذا وجد ما يدل على المساومة والتعاطي، قام مقامها وأجزأ عنهما، لعدم التعبد فيه) (ج ٤ ص ٤) .

<<  <  ج: ص:  >  >>