للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثًا: التحكيم في الفقه:

يكاد يتفق الفقهاء على أن التحكيم هو تولية الخصمين حاكما بينهما، أو انتداب القاضي لحكم يحسم الخلاف، فهو سيلة لفض النزاع بين المتحاكمين، حتى يحدد الحق يعرف صاحبه (١) . وهذا التعريف يظهر تقارب معنى التحكيم من معنى القضاء، مع الفرق بينهما؛ لأن التحكيم هو تولية الخصمين حاكما بينهما باقتراحهما أو بأمر القاضي. أما القضاء فهو تبيين الحكم الشرعي الإلزام به وفصل الخصومة عن طريق السلطة الرسمية، فالقضاء هو الأصل والتحكيم فرع؛ لأن القاضي له الولاية العامة لا يخرج أحد عن سلطته ولا يستثنى من اختصاصه موضوع؛ لأنه ممثل للسيادة، فهو السلطة الرسمية لفض المنازعات. أما المحكم فإن توليته تكون من القاضي إذا اقتضى نظره ذلك، أو من الخصمين إذا لجأ إليه لفض الخلاف بينهما.

وإذا كان القاضي لا يستثنى من اختصاصه موضوع؛ فإن الحال ليس كذلك في التحكيم حيث توجد أمور وقضايا لا يمكن التحكيم فيها؛ لأنها من اختصاصات القضاء وحده نظرا لتعلقها بالنظام العام وبمفهوم السيادة.

كما أن حكم القاضي لا خلاف حول قوته الإلزامية في فض الخصومة. أما حكم المحكم فهو ملزم للأطراف عند أغلب الفقهاء (٢) ، غير أن جانبا من الفقه يراه للصلح بين المتحاكمين وإصلاح ذات بينهما أو إزالة الخصومة فلا يكون ملزما إلا برضا الطرفين (٣) .

إن التحكيم مثبت شرعا بنص القرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع الأئمة. أما في القرآن الكريم، فقد جاء في سورة النساء الآية ٣٥، قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: ٣٥] ، فإذا كان مرغوبًا من الله في العلاقة الزوجية، فمن باب أولى أن يكون كذلك في المعاملات الدنيوية الأخرى، لدنوها في الأهمية من العلاقات الأسرية.

أما السنة المطهرة، ففيها ما هو صحيح ومتعلق بالتحكيم، فقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتحكيم سعد بن معاذ، رضي الله عنه، في أمر اليهود من بني قريظة، حين جنحوا إلى ذلك ورضوا بالنزول على حكمه، وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي بتحكيم الأعور بن بشامة في أمر بني العنبر حين انتهبوا أموال الزكاة، وفي الحديث، الذي أخرجه أبو داود، أن أبا شريح هانئ بن يزيد،رضي الله عنه، لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قومه وسمعهم يكنونه بأبي الحكم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟)) فقال له: شريح ومسلم وعبد الله فقال: ((فمن أكبرهم؟)) قال شريح: فقال صلى الله عليه وسلم: ((أنت أبو شريح ودعا له ولولده)) .


(١) راجع في الفقه الحنفي: معين الحكام، للطرابلسي، وبحاشيته لسان الحكام، لابن الشحنة، القاهرة ١٣٩٣ هـ / ١٩٧٣ م، ٢٤، ٢٥؛ وشرح فتح القدير، لابن الهمام، القاهرة ١٣١٦هـ ٥ / ٤٩٨؛ وأدب القاضي، للحصاف، تحقيق أبي بكر الرازي، القاهرة ١٩٨٠ م، ٣٩١. وفي الفقه المالكي: تبصرة الحكام، لابن فرحون، حاشية على فتح العلي الملاك، لعيش، القاهرة ١٣٧٨هـ / ١٩٥٨ م، ١ / ٥٥؛ ومواهب الجليل، للحطاب، وبحاشيته التاج والإكليل، للمواق، القاهرة ١٣٢٩ هـ ٦ / ١١٢ وفي الفقه الشافعي: أدب القاضي للماوردي، تحقيق يحيى هلال سرحان، بغداد ١٣٩٢ هـ ٢/ ٣٧٩؛ والمبسوط للسرخسي، القاهرة ١٣٣١ هـ ٢١ / ٦٢. وفي الفقه الحنبلي: المغني، لابن قدامة، القاهرة ١٣٦٧ هـ ٩ / ١٠٧
(٢) مواهب الجليل ٦ / ١١٢؛ أدب القاضي، للحصاف ١٩٢
(٣) قول منسوب إلى الشافعي، أخذ به قليل من الفقهاء، ذكره الماوردي في أدب القاضي ٢ / ٣٨١

<<  <  ج: ص:  >  >>