أما عن إجماع الصحابة بالعمل به، فقد كان بين عمر وأبي بن كعب، رضي الله عنهما، منازعة في نخل، فحكما بينهما زيد بن ثابت، رضي الله عنه، وكثيرًا ما كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يحكمون أحدهم في أقضية من أقضيتهم.
وقد لاحظ بعض الفقهاء المتأخرين أن التحكيم كان في عصر الصحابة والتابعين لمعرفتهم بالدين ولتقواهم، فلا يجوز العمل به بعد ذلك؛ إذ قد يتجاسر العوام فيحكمون بغير ما أوجبته الشريعة، لا شك أن هذا الرأي وإن كان له ما يبرره، إلا أنه لم يراع ما يشترط في الحكم من شروط تحافظ على حكم الشرع، وتحقق ما ترمي إليه الشريعة الغراء من إشاعة التواصل الاجتماعي وتحقيق الصلح والمصالحة، وبعض الشافعية أجازوه بشرط عدم وجود قاض في البلد، ومنهم من أجازه في المال فقط، وقد أجاز الحنابلة التحكيم، وهو الأظهر عند الشافعية، وقال بعض المالكية بنفاذه بعد الوقوع.
١- من يجوز له أن يكون محكمًا؟
اشترط الفقهاء في المحكم أن يكون مسلمًا أهلًا لولاية القضاء أهلية مطلقة لا في خصوص موضوع النزاع فقط، أما تحكيم غير المسلم فلا يجوز بين المسلمين ولا يتعلق ذلك بعدم الثقة في غير المسلمين، فالإسلام يبيح التعامل الحر والثقة بين الناس على اختلاف مللهم، وإنما شرط إسلام الحكم أمر يتعلق بحسن تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ جرت العادة على أن غير المسلم لا يكون على إلمام عميق بعلوم الشريعة، نظرًا لطبيعتها الإيمانية، لذلك قاس الفقهاء المحكم على القاضي في شرط إسلامه لو كان أطراف الخصومة أو أحدهم من المسلمين (١) – واستغنى بعض الشافعية عن شرط الأهلية عندما لا يتوفر، ومنهم من حصر التحكيم في الأموال فقط كما اشترطوا في المحكم أن لا تربطه بأحد الخصمين قرابة تمنع الشهادة.
كما يشترط فيه تراضي طرفي الخصومة على قبول حكمه، إلا إذا عينه القاضي؛ لأنه نائب عنه، وليس للخصمين أن يتفقا على محكم ليس أهلًا للتحكيم، كما يجب أن يستمر الاتفاق على التحكيم حتى صدور الحكم، فلو رجع أحد الخصمين عن التحكيم قبل صدور الحكم يلغى التحكيم.
(١) عمر القاضي، التحكيم الدولي بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي الفرنسي والمصري، أطروحة دولة، باريس ١٩٨٤. ص ٣٤٦ وما بعدها.