يقول ابن عاصم: ومنع الإفتاء للحكام، في كل ما يرجع للخصام.
وهذا هو الفرق بين علم الفتيا وفقه الفتيا. ففقه الفتيا هو العلم بالأحكام الكلية أما علم الفتيا فهو معرفة تلك الأحكام مع معرفة تنزيلها على أهم النوازل.
فالمقلد قد يحفظ مذهب إمامه وهو عاجز عن الغوص في أعماقه ومعرفة غوامضه وهو قاصر عن تقدير أدلته ومرجحات آرائه.
وقد تجد الرجل يحفظ كثيرًا من الفقه ويفهمه ويدرسه ويعلمه للناس فإذا سئل عن واقعة وقعت أو نازلة نزلت فهو لا يحسن الجواب بل ولا يفهم المراد ضرورة أنه لا يجدها فيما حفظه ووعاه.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعمل بها)) .
وما العمل بها إلا إرشاد الناس وتوجيههم والسعي إلى حل مشاكلهم في نطاق مبادئ الشريعة السمحة وما جاءت به من أحكام شاملة.
يقول شيخنا شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط:
الحكم يلزم أن يكون فيما يتناوله الخصم والتداعي وإلا كان فتوى لا حكمًا، وهذا كأن يدعي الاستحقاق أبناء أخ في وقف سبله واقفه على أولاده وأولادهم والطبقة السفلي لا تشارك الطبقة العليا، ثم مات الواقف عن ولدين ومات بعده أحدهما عن أولاده وأخيه، فنازعهم العم في استحقاقهم بدعوى أن كل فرد من أفراد الطبقة العليا يحجب الطبقة السفلي عن الاستحقاق فحكم القاضي المالكي باستحقاق أولاد الأخ مع العم وبأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها.
فالمعتبر حكمًا هو استحقاق هؤلاء الأفراد مع عمهم أما حكمه بأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها فخارج مخرج الفتوى لا يمنع حاكمًا آخر يرى خلاف هذا المذهب أن يحكم فيما سيحدث في هذا الوقف من النزاع بحرمان فرد من أهل الطبقة السفلى (من غير المحكوم عليهم أولًا) من الاستحقاق لوجود فرد من أهل الطبقة العليا وإن لم يكن أصلًا للمحكوم بحرمانه، ولا يصده عن الحكم حكم الأول بأن الطبقة العليا إنما تحجب فرعها لا فرع غيرها لخروج هذا الحكم مخرج الفتوى.
وفتوى المفتي بشيء لا تمنع فتوى غيره بخلاف فتواه ولا حكم غيره بخلاف ما ارتآه؛ لأن الغرض من الحكم سد باب الخصومات وحسم النزاعات ودرء الظلامات وتمكين أهل الحقوق من حقوقهم فيجب أن يقتصر فيه على ما يفي بهذا الغرض. اهـ (١) .
وشيخنا رحمه الله يشير إلى أن فقه القضاء وتعليل الأحكام وإيضاح الأحكام وإيضاح أسانيد الرأي فيها لا يعني اتصال القضاء في ذلك ولا يمنع من حرية الاجتهاد لاحقًا في القضاء والفتوى.
(١) كتاب الطريقة المرضية صفحة ٢٤١