والآية الكريمة:(وداود وسليمان) التي أوردناها كأصل ثابت في شأن التحكيم قد تضمنت عدة مبادئ قضائية منها: مبدأ رجوع القاضي عن اجتهاده ورأيه الأول إلى اجتهاد أرجح، وقضاء أفضل في إصابة الحق ونشر العدل، فإن سيدنا داود عليه السلام وهو النبي قد رجع إلى رأي ابنه وقضى بتنفيذه.
كما تضمنت الآية الكريمة موضوع تعقب الأحكام بالمراجعة والمناقشة وإمكانية نقضها وإبرامها من جديد متى اتضح الصواب، وألهم الله القاضي طريق الحق في القضية المعروضة عليه وقد أطنب الماوردي رحمه الله وبسط القول في هذه النظرية في كتاب أدب القاضي ج١ صفحة ٦٨٥ وما بعدها.
فالتحكيم هو الالتجاء إلى محكمين لا سلطة قضائية لهم ويقع الفزع إليهم مع وجود سلطة القضاء الرسمي.
والتحكيم عمل قضائي صرف لا محالة، وما يصدر عن المحكمين لا يمكن أن يوصف بأنه الصلح الذي يشترط فيه حصول اتفاق ورضا كافة الأطراف، وكذلك لا يمكن أن يقال إن المحكمين وكلوا من طرف من انتبدهم، لأن الوكيل ملزم باتباع مصلحة من وكله، لا اتباع طريق العدل والإنصاف والحق، ومن هنا فإن العمل الذي كان يقوم به شيخ القبيلة وزعيمها هو أقرب للقضاء لا للتحكيم، ونحن نجزم بأنه لم يوجد تحكيم قبلي قبل الإسلام يحمل تلكم المواصفات التي أشرنا إليها سابقًا، وكما علمنا فإن القضاء مختلف عن التحكيم مهما كان النظام القضائي القائم والمعمول به.
وقد رأينا بعض من كتب في الموضوع يشير إلى وجود تحكيم سابق عن الإسلام له أساس ومد قبلي، فالأستاذ محمد مصطفى حسن نائب رئيس هيئة التحكيم الدولية لغرفة التجارة ومقرها باريس يكتب في نشرية التحكيم التجارية الدولي في مايو سنة ١٩٩٢ فيقول:
(وقد كان هناك نوع من التحكيم في الإسلام وحتى في العصر السابق على ظهور الإسلام غير أن هذا التحكيم ذا الأساس والمد القبلي أو الذي ينصب على مسائل من الأحوال الشخصية كالزواج أو الذي تكون أهدافه أقرب إلى الناحية السياسية ليس هو بالتأكيد التحكيم التجاري الدولي الذي اكتسب منذ عهد ليس بالقريب ولا يزال يكتسب بسرعة فائقة خصوصيات حية حتى بالنسبة للتحكيم التجاري الداخلي) .
وقد اختلطت في نظره الأمور فهو يجعل تصرف القادة والزعماء القبليين تحكيما ثم لا يعترف بفضل الأسبق الذي بنى الأسس، لأن من جاء بعده سعى إلى الزيادة والتحسين وهو أمر طبعي لا ينفي الأصل بل يقره مع الاعتراف بفضله ولا يمكن جحوده ونكرانه.