والقدر أو التقدير عندما تتعذر الرؤية البصرية لعارض من العوارض كالضباب وغيره إنما هو إكمال الشهر ثلاثين يومًا.
كما اعتبروا أن قضية الصوم والإفطار قضية دينية بحتة يجب الرجوع فيها إلى النصوص لا إلى مقتضيات العقول لأنها ليست مجالًا للاجتهاد الذي يُفضى إلى استعماله في حالة فقدان النصوص، والمعروف أن حكمها مقرر في السنة النبوية واتفاق المسلمين في الطبقة الأولى منهم، وأغلبهم فيما بعد ذلك وإلى اليوم لم يؤولوها لأن عباراتها صريحة لا تحتمل التأويل، خصوصًا وأنه لا يوجد دليل من النصوص يعارضها.
وعلى هذا الاتجاه سار العلامة ابن حجر في شرحه لحديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) فقال: لا نكتب ولا نحسب، تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب: أميون، لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} .
ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير (كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري – الجزء الرابع ص ١٢٧) .
وقال في المكان نفسه: فإن تعليق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعدهم من يعرف الحساب، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل: فسلوا أهل الحساب.
والحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم.
كما ذكر العلامة ابن حجر في نفس المكان تعليق ابن بطال الذي قال في حديث: ((إنا أمة أمية)) رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته الطويلة حول الهلال في استدلاله على عدم جواز الاعتماد على الحساب: "أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقًا كما سلك الألوف منهم لم يضبطوا سيره إلى التعديل الذي يتفق لحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريبي" (الفتاوى – ج ٢٥- ص ١٨٣) .
وقال في فقرة أخرى من نفس الرسالة:
"فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الأمور، لأن ضبط وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام تدركه الأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا تشغله مراعاته عن شيء مخصص له، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله، كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم (ص ١٣٩) .
وقال في نفس الرسالة: "ما ذكرناه من أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة لا ريب فيه، لكن الطريقة إلى معرفة طلوع الهلال هو الرؤية لا غيرها" (ص ١٤٦) .
وقال (في ص ٢٠٧) : "والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فإنه مخطئ في العقل وعلم الحساب فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي" ...
والذي يظهر لي أن كل هذه الحجج والتعاليل التي اعتمدها المانعون للعمل بالحساب ليست مقنعة ولا أنها في المنع.