وقد غفل القائلون هكذا عن أمر، وهو أن بعض النصوص التي اعتمدوها وردت معللة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، والقاعدة عند الأصوليين والفقهاء أن النص إذا ورد معللًا بعلة فإن للعلة تأثيرها في فهم النص، وأن الحكم يرتبط بها وجودًا وعدمًا، لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها.
كما تغافلوا عن أن الضرورة قد يكون لها دخل في تغير الحكم، فمثلًا: جاءت النصوص بصوم الثلاثين يومًا عند الغيم ضرورة أننا لا نستطيع معرفة أول دخول الشهر إلا عن طريق الرؤية البصرية وقد تعذرت، فإذا أمكننا التعرف على دخول أول رمضان أو أول شوال بواسطة أهل الذكر وهم أهل الحساب الفلكي فلا يجوز لنا أن نعتمد على الضرورة والله تعالى يقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وبذلك يتبين أن أصحاب هذا الاتجاه لم يقنعوا بأي دليل أو برهان من الأدلة والبراهين التي قدمها المجيزون لإثبات الشهر بالحساب، واعتباره وسيلة ثانية مع الرؤية على الأقل كما أن كل المعطيات الجديدة التي حفت بموضوع إثبات أوائل الشهور والتطور العلمي المدهش الذي ظهر في العالم، والرغبة الملحة من الأمة الإسلامية في التوحيد لم تغير من مواقفهم شيئًا.
وإذا كان من المفروض عند علماء الحساب ومن يجيزون العمل به أنه لا يمكن أن تختلف نتيجة الحساب عن نتيجة الرؤية الصادقة بحال من الأحوال، فإن اختلاف المسلمين في بداية الشهور القمرية يدل على وجود خلل، إما في الحساب وإما في الرؤية.
وقد بلغ الخلل أقصاه في السنوات الأخيرة، إذ ليس من المعقول لولاه أن تختلف بداية الشهر القمري بين بلد وآخر بمدة وصلت في السنة الماضية (١٤٠٦) إلى ثلاثة أيام.
وبإعادة النظر في تقييم هاتين الوسيلتين –الرؤية والحساب- بعد كل هذه الجهود التي بذلت، ولاسيما في السنوات الأخيرة، فإننا نجد ضبطًا مدققًا في التقاويم القمرية التي صدرت عن اللجنة الدولية المنبثقة عن مؤتمر اسطنبول، إذ هي التزمت بكل الضوابط التي فرضت عليها، فكان الاتفاق كاملًا بين المراصد الفلكية في كامل العالم الإسلامي، كما كان التطابق تامًا في النتائج المقدمة كل سنة من طرف المراصد، الأمر الذي دفعنا إلى الاطمئنان إلى نتائج الحساب.
أما الرؤية البصرية فإنها لم تضبط في نظرنا الضبط المدقق الذي يضمن لها الصحة، ويحقق لها النتيجة الصحيحة التي لا ينبغي أن تختلف عن الحساب المصحح عادة.