أما محاولة الجمع بين الكلامين بحمل المنع على غير ما يعتقدونه ذكاة عندهم، والإباحة على ما اعتقدوه تذكية، فهي محاولة فاشلة؛ لأن الصورة واحدة، وهم هم أنفسهم، مع أنه يفيد كلامه أن ذلك يحرم علينا وإن كانوا هم في اعتقادهم له مستحلين، بدليل تمثيله بالخنزير، وقوله بأنه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا.
على أنا لا نسلم أن الخنزير حلال لهم، فإنهم لم يأكلوه استنادا إلى نص كتاب على حله، ولكن بفتوى من أفتاهم بذلك من رهبانهم، ومثله الميتة- ومنها المنخنقة والموقوذة- إذ النصارى لم يبح لهم إلا ما أباحته التوراة إلا ما كان تحريمه في التوراة وقتيا عقوبة لليهود على سوء صنيعهم وشططهم في العناد ومكابرة الحق.
على أنه لو ادعى أحبارهم ورهبانهم حل ذلك لهم لم يصدقوا فيه، كما قال الإمام الرهوني:"كيف يقبل قولهم بعد إخبار الله تعالى عنهم بأنهم حرفوا وبدلوا حسبما أفصحت بذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتواترة- إلى أن قال- على تسليم تصديقهم تسليما جدليا فلا وجه في تصديقهم أن المنخنقة والمسلولة العنق والموقوذة المضروبة في الرأس بشاطور مثلا حلال عندهم، وعدم تصديقهم في أن الميتة والخنزير حلال عندهم، وما فرق به- يعني أبا عبد الله الحفار المنتصر لرأي ابن العربي - من أن الله قد كذبهم في الميتة والخنزير دون المضروبة بشاطور مثلا، وما ذكر معه لا يصح؛ لأنه إن عنى أن الله كذبهم في إخبارهم بحليتها فليس في القرآن ولا الأحاديث شيء من ذلك، وإن عنى أن الله كذبهم بقوله:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}[المائدة: ٣] فهذه مصادرة لأن الله قد كذبهم فيما زعم أنهم يصدقون فيه؛ لأنها إما منخنقة أو موقوذة، وقد ذكر الله حرمة كل واحدة منهما في الآية نفسها بقوله عز من قائل:{وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ}[المائدة: ٣] ، وقد قال ابن العربي نفسه في الأحكام ما نصه: "وأما قوله والمنخنقة فهي التي تختنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل " (١)
(١) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل: ٣/ ١٢- ١٣؛ وانظر كلام ابن العربي في المنخنقة في أحكام القران: ٢/ ٥٣٨