للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل الثاني

اختلاف مطالع القمر

اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفرق سكان الأرض على سطحها ليعمروها ويقوموا بخلافة الله فيها، وتبع ذلك بالضرورة اختلاف مواقع البلاد على الكرة الأرضية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، واقتضى نظام سير الكواكب لا سيما الشمس والقمر اختلافًا وتفاوتًا في مواقيت العبادات المقدرة بشروق الشمس وغروبها وزوالها كالصلوات الخمس والمقدرة بثبوت الأهلة كالصوم، فتشرق الشمس على قوم قبل أن تشرق على آخرين بساعة وساعتين وثلاث ساعات وأكثر من ذلك على حسب التباعد بين الجهتين شرقًا وغربًا، فبينما تكون بلاد في وقت المغرب وحلول الإفطار في رمضان تكون أخرى في وقت الشروق أو الزوال أو العصر لأن كل ساعة من ساعات الليل والنهار هي طلوع الفجر وشروق الشمس وهي وقت الضحى والزوال والعصر والغروب وهي وقت ظلمة الليل أوله ووسطه وآخره على حسب مواقع البلاد، ولذلك لا يمكن أن توحد مواقيت الصلاة اليومية، ولا أوقات الإمساك والإفطار في أيام رمضان في جميع الأقطار الإسلامية ما دامت الأوضاع الكونية قاضية بتفاوت تلك المواقيت وما دام هذا التفاوت هو الواقع المشاهد، وكذلك نفس الاختلاف مطالع القمر مما وقع الاتفاق عليه ولا يمكن جحده أو المكابرة فيه، فإن الثابت واقعيًا وعلميًا والمشاهد حسيًا أن الهلال يرى في بعض البلاد بعد غروب الشمس ولا يرى في بعضها إلا في الليلة التالية، ومعنى هذا أن رؤية الهلال أول شهر قد تكون متيسرة لبعض الأقطار دون البعض، فاختلاف مطالع القمر أمر واقعي مشاهد وظاهرة كونية لا جدال فيها، لكن الذي اختلفت فيه أنظار الفقهاء هو أنه: هل لهذا الاختلاف في المطالع تأثير في ثبوت الأهلة والأحكام المتعلقة بها كالصوم والإفطار والحج والأضحية؟ أو أنه لا عبرة باختلاف المطالع؟ فإذا ثبت الهلال في أي بلد إسلامي ثبت في حق جميع المسلمين إذا بلغهم ثبوته بطريق موثوق بصحته لا خلاف لأحد في أن اختلاف مطالع الشمس معتبر شرعًا في الأحكام الشرعية المتعلقة بها، وجرى العمل بمقتضى ذلك من مبدأ الإسلام في أوقات الصلوات الخمس والإمساك والفطور ولكنهم اختلفوا بعد ذلك اختلافًا كثيرًا في اعتبار مطالع القمر وعدم اعتبارها، ولعل ذلك لأن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقال صلى الله عليه وسلم: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس)) ومعلوم أنه ما من حركة تتحركها الشمس إلا وهي فجر عند قوم، وزوال عد قوم وغروب عند قوم وليل عند قوم لذلك أجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم، أما الأهلة فقد أناط الشارع الحكم فيها برؤيتها، قال تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته)) والخطاب في الآية والحديث لعامة المسلمين، وليس معنى شهود الشهر رؤية هلاله من كل مكلف فليست رؤية المكلف الهلال شرطًا لوجوب الصوم إجماعًا، ألا ترى أن في الناس من هو أعمى أو ضعيف البصر، ومن لا يتيسر له الرؤية لأي سبب مع أن الوجوب مقرر على الجميع إجماعًا لا يتصور في ذلك خلاف، كما وقع الإجماع على أن التماس الهلال ليس فرض عين، ولو كانت الرؤية شرطًا لوجب على كل أحد أن يرى الهلال، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما هو مقرر في الأصول.

<<  <  ج: ص:  >  >>