ثم نقل ما قاله القشيري: وإذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم، فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العد أو الاجتهاد أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه.
قال رحمه الله وأقول: مما يؤيد القول بالعمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يرجعون في كل حادثة إلى أهل الخبرة وذوي البصيرة فيها، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان وغير ذلك كثير فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهما من الأشهر على الحساب والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك مع كون مقدماته قطعية وموافقة لما نطقت به آيات القرآن المتقدمة؟ ألا ترى أن الحاسب إذا قال بناء على حسابه إن الخسوف أو الكسوف يقع ساعة كذا من يوم كذا وقع كما قال قطعًا ولا يتخلف؟ خصوصًا وأن مبنى الحساب على الأمور المحسوسة والمشاهدة بواسطة الأرصاد وغيرها وقد يبلغ المخبرون بوجود الهلال وإمكان رؤيته عدد التواتر فيفيد خبرهم القاطع بوجود الهلال، وإمكان رؤيته لولا المانع، أو لا يبلغ المخبرون عدد التواتر، ولكنهم يكثرون إلى أن يفيد خبرهم غلبة الظن التي تقرب من اليقين فيطمئن القلب إلى صدق الخبر، ويبقى احتمال غيره كالعدم، ومما يؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وشهود الشهر إما بمعنى الحضور فيه وعدم السفر، وإما بمعنى العلم بوجوده، وهذا الثاني هو الظاهر من الآية فإن الشهود بمعنى العلم هو سبب وجود الصوم، وقوله تعالى {فَلْيَصُمْهُ} جاء مرتبًا عليه بإلغاء خبر لـ (مَنْ) أو وجوبًا للشرط، فيكون الظاهر من الآية أن كل من علم منكم بوجود الشهر المعهود وهو شهر رمضان وجب عليه صومه، ووجود الشهر شرعًا كما هو مقتضى الأحاديث بوجود هلاله بعد غروب الشمس بحيث يرى الناظر، فمن علم بوجود هلال الشهر بعد الغروب بأي طريق من طرق العلم الشاملة لغلبة الظن، سواء كان ذلك العلم برؤيته نفسه، أو بإخبار من يثق به برؤيته، أو بأمر القاضي بذلك وعلمه بأمره، أو بحساب فلكي دل على وجوده وإمكان رؤيته بلا عسر لولا المانع، وجب عليه الصوم فالذي يقتضيه النظر هو ما قاله القشيري كما تقدم من أنه دال الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا المانع كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية شرطًا في اللزوم.