أم يتعين أن يقال: أن مثل هذا الخطاب مبني على الغالب، وكأنه قال: وأما الذين يستمر عندهم ظهور الشمس أو اختفاؤها أكثر من أربع وعشرين ساعة فيقدرون وقت الصوم ووقت الإفطار بالساعات بحسب أقرب الجهات المعتدلة إليهم، وذلك إنما يكون بالحساب بلا شبهة، فإن الشارع بنى أحكامه في بيان أوقات الصلاة والصيام على الغالب ولكن لم يهمل بيان حكم غير الغالب فقد أخرج مسلم في صحيحه من رواية يونس بن سمعان من حديث الدجال وفيه:((قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكيفنا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له)) وكذلك عدة أحاديث غيره جاءت في هذا المعنى، فهل يمكن أن يقال إن معنى ((اقدروا له)) أتموه وكملوه كله بل يتعين أن يكون المراد: انظروا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات وذلك يختلف باختلاف الناس ولا يلزم أن يكون كل الناس عارفين بالعلامات التي تدل على حضور الأوقات بل يكفي أن يعرف ذلك البعض ومن لم يعرف ممن يعرف، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
ألا ترى أن لو كان أهل البلد عميانًا ما عدا أفرادًا قلائل فإن هؤلاء المبصرين يعرفون علامات الأوقات ويخبرون الباقين فكذلك الخواص يعرفون العلامات بالحساب ويخبرون من لا يعرفون ومتى كانوا عدولًا وجب قبول خبرهم، ولاشك أن حديث الدجال، وإن كان مسوقًا لبيان حكم الصلاة في أيامه، ولكن علم أن مدار العبادات على الدورة اليومية والدورة الشهرية والدورة السنوية وبيان حكم الصلاة في أيامه مبين لحكمها فيما يماثل أيامه، والظاهر أن الشارع أشار إلى أن الأيام تختلف في الطول والقصر وأنها لا تتساوى في كل الأقطار بل يكون اليوم في بعضها كأسبوع وبعضها كشهر وبعضها كسنة، وأن حكم العبادات لا يختلف بسبب ذلك الاختلاف، ومما يرشد إلى ذلك اقتصاره في غاية الطول على سنة ولا يكون اليوم في الواقع ونفس الأمر أكثر من ذلك فإن غاية ما يكون ظهور الشمس ستة أشهر واختفاؤها كذلك فلا يتجاوز بنهاره وليله سنة أي دورة كاملة، وقد يتفاوت الليل والنهار طولًا وقصرًا في جهات الكرة الأرضية، ولكن لا يتجاوز هذا المقدار فإن الدورة لا تكون أكثر من سنة، فهذا كله يدل على أن الشارع لم يأمر بالصلاة لدلوك الشمس مثلًا ولا بالصوم لرؤية هلال رمضان، وغير ذلك من الأوقات التي جعلها علامات لأوقات العبادات إلا بناء على الغالب، ولتكون العلامات التي يُتعرف بها أوقات العبادات ظاهرة للخواص والعوام في غلب المعمورة، لا لأن العبادات تسقط إذا لم توجد تلك العلامات؛ لأن سقوطها لا يوجب سقوط نفس الأوقات فلا تسقط العبادات.