ويقولون: سيموت فلان أو يتولى منصبًا خطيرًا أو ستكون السنة القادمة مجدبة، أو يعم الرخاء فيها، أو تغلو الأسعار أو ترخص مما تفنن فيه أصحاب التقاويم عندنا، وجعلوا ينظمون في ذلك أشعارًا مملوءة بالرموز والأحاجي والألغاز حتى تروج بضاعتهم ولا ينكشف أمرهم، فهذا هو الذي عناه الحديث بلفظ الناس عن التعلق بالأوهام والخرافات ويرتفع بمستواهم عن تصديق هؤلاء فيما اختص بالله به نفسه من علم الغيوب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .
قال الغزالي: علم النجوم إذا أريد به موت فلان وحياة فلان وبطلوع نجم كذا يظهر موت فلان أو هلاك أمة أو ذهاب دولة فليس يقينيًا ولا ظنيًا، وقد دحضه الفارابي في كتاب الفصوص، وفرق بين القضايا الحسابية والحوادث الأرضية، وقال: من العجيب أن قال: إن مرور نجم كذا يوجب أن يحصل عنه حوادث لاتفاق اتفق فيجعل قاعدة عامة، فهذا القسم لا يقول به الشرع، فأما علم النجوم الذي يعرف به سير الكواكب والشمس والقمر وكذلك علم الهيئة فلن يكذبه الشرع بل يهتدي به إلى معرفة السنين والشهور وأوقات الصيام والحج ومواقيت الصلاة فإنكار هذا قصور وجهل، ولعل الذي حمل بعض العلماء على عدم التعويل على ما يقوله الحاسبون والمنجمون ما قدمنا من اختلاف طرائقهم مما جعله يرجع هذا الاختلاف إلى أن مقدماتهم ظنية غير يقينية وأنهم يخطئون ويغلطون كثيرًا وهذا ما صرح به كثير منهم في تعليل رده لأقوالهم كما قدمنا.
وهذا إن صح بالنسبة للمنجمين والحاسبين فيكون فيما قبل عصر النهضة في الدولة العباسية أما في هذا العصر وما تلاه من الأعصر التي ظهرت فيها الاكتشافات العلمية الحديثة وأنشئت المراصد المجهزة بأحدث أجهزة الكشف في العواصم الإسلامية وغيرها فقد تقدم علم الفلك وعلم الهيئة تقدمًا ملحوظًا وتمكن العلماء من وضع قوانين هندسية مبرهنة لإنتاج مقادير الحركات الظاهرة للشمس والقمر وسائر الكواكب بالتحديد، مضربين عن القواعد الفلكية الحسابية القديمة لابتنائها على الأوساط التقريبية، قال الشيخ أبو العلاء البناء: إن مقدمات الحساب الفلكي لإثبات الشهر قبل الإسلام وإلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم عند جميع العالم كانت ظنية كلها غير يقينية الإنتاج كما قدمنا ودلت التواريخ ونصوص الفلكيين على ذلك، وهذا بعينه هو الذي حمل السبكي على أن يقول في رسالته العلم المنشور: وجعل الرؤية أو الإكمال علمًا على الشهر في الشريعة ليكون ضبطًا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف (الحساب) فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس ويقع الغلط فيه كثيرًا للتقصير في علمه ولبعد مقدماته وربما كان بعضها ظنيًا فاقتضت الحكمة الإلهية والشريعة الحنفية السمحة التخفيف عن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس منا لرؤية أو إكمال العدد ثلاثين.