وقد أدركت الأمة من قديم أن الشهادة برؤية الهلال كثيرًا ما يعتريها الشكوك وتمازجها الأوهام فهذا أنس بن مالك يرى شعرة بيضاء ساقطة من حاجبيه فظنها الهلال، فلما رفعها إياس بيده قال: لا أنظره، ومن الشهود من يعتمد الكذب ليشتهر أو لإثبات عدالته أو للتقرب إلى الله جهلًا، ومنهم المخطئون لضعف الحاسة أو الوهم أو غير ذلك، فاستحسنوا الأخذ بالأسباب ليتبينوا أما إذا كانت الرؤية ممكنة أو غير ممكنة ليكون ذلك حصنًا يقي من غلط الحس أو تعمد الكذب ومن التنطع بالشهادة تقربًا إلى الله ونغير ذلك ولذا قال السبكي كما تقدم: وليس معنى الحديث ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) النهي عن الكتابة والحساب ولا ذمهما وتنقيصهما بل هما فضيلة فينا، وليس في الحديث أيضًا إبطال قول الحاسب إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها أو تمكن رؤيته أو لا تمكن والحكم بكذبه في ذلك، وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي بثبوت الشهر به.
وإذًا فلا مناص لنا بعد الذي تقدم من الاعتماد على الحساب الفلكي إن لم يكن لإثبات الشهر به بادئ ذي بدء فلإثبات أن رؤية الهلال ممكنة أو غير ممكنة فتقبل الشهادة برؤيته ممن يشهد بذلك أن قرر علماء الفلك والحساب أنها ممكنة مع عدم المانع من غيم ونحوه، ولنردد هذه الشهادة أن قرروا أن الهلال يغرب قبل غروب الشمس أو بعدها بقليل بحيث تتعذر رؤيته، ولو بالنظارات المكبرة أو بآلات الرصد في أبعد البلاد نحو الراغب وهي مراكش كما يقولون.
حقًا إن تقدم علم الفلك وبراعة علمائه وحسابهم الدقيق الذي يضبطون به أحوال القمر ومنازله، ويحددون به وقت ميلاده ومقدار ارتفاعه وغاية مكثه فوق الأفق، ويعرفون به بعد ما بينه وبين نقطة مغيب الشمس يمينًا أو شمالًا، مضافًا إلى ذلك ما أتيح لنا في هذا العصر من المخترعات الحديثة التي يسهل بها كشف الهلال في ليلته الأولى ومهما كان صغيرًا ودقيقا كل ذلك مما يساعد على إثبات الأهلة في ضبط ويسر وسهولة.
وإذا كانت الشريعة السمحة لم تكلف الناس إلا بما يطيقون ولم تفرض عليهم في تحري الهلال أكثر من التماسه بالعين المجردة ولم تحتم عليهم أن يتكلفوا البحث عنه بوسائل أخرى رحمة بهم وتخفيفًا عليهم فإن ذلك لا يمنع أن تستخدم تلك الوسائل التي تسهل رؤيته والتثبت منه ما دامت موفورة ميسرة بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنه يجب على الحكومات الإسلامية وجوبًا كفائيًا أيضًا - بمعنى أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين- أن تلتمس الهلال بعد غروب يوم ٢٩ من كل شهر بحساب الرؤية مستخدمين كل الوسائل التي يسر الله بها أمر الرؤية في هذا الزمان فإنهم إن قاموا بهذا الواجب الديني مسترشدين بآراء الفلكيين السديدة الموثوق بها لا يمكن أن تفوتهم جميعًا رؤية الهلال متى كان نظام دورته يسمح برؤيته، وبهذا يقضى على عوام الاضطراب في إثباته وتتوحد كلمة المسلمين في جميع أنحاء المعمورة بشأن إثبات الشهور العربية وتحديد أوائلها ونهاياتها وتنحل تلك المشكلة المزمنة وتزول أسباب التفرق والاختلاف.